اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٢ تشرين الأول ٢٠٢٥
“صندوق رأس المال والاستثمار الأردني: نموذج وطني لتفعيل التحديث الاقتصادي من بوابة الاستثمار الإنتاجي”
د. عدلي قندح
مقدمة: من التمويل إلى التمكين الإنتاجي
يشهد الاقتصاد الأردني في السنوات الأخيرة تحولاً جوهرياً في فلسفة التنمية، حيث لم يعد التركيز مقتصراً على التمويل أو الدعم المالي، بل انتقل إلى مرحلة التمكين الإنتاجي والاستثمار الاستراتيجي. في هذا السياق، يبرز صندوق رأس المال والاستثمار الأردني كمثال حي على التحول المؤسسي الذكي الذي يجمع بين الرؤية التنموية طويلة الأمد والمنطق الاقتصادي الحديث القائم على الشراكة والابتكار والكفاءة.
ففي تشرين الأول 2025، أعلن الصندوق عن استحواذه على 27% من شركة 'نات هيلث”، الرائدة في إدارة التأمينات الصحية في الأردن والمنطقة. هذه الصفقة ليست مجرد استثمار مالي، بل تمثل خطوة نوعية في ترجمة رؤية التحديث الاقتصادي إلى فعل ملموس، إذ تربط بين القطاع المالي والقطاع الصحي ضمن إطار تكاملي يخدم النمو الشامل والرفاه الاجتماعي.
الصندوق: تجسيد لفكرة 'التمويل المنتج”
تأسس صندوق رأس المال والاستثمار الأردني بمبادرة من البنك المركزي الأردني وبمساهمة مباشرة من البنوك العاملة في المملكة، ليكون أداة سيادية ذات طابع تنموي، تُدار بمعايير السوق الحديثة.
ويهدف الصندوق إلى ضخ رؤوس أموال استثمارية في الشركات الوطنية الواعدة، خاصة تلك التي تمتلك قدرة على التوسع والتأثير في قطاعات إنتاجية وخدمية حيوية.
فهو يمثل مرحلة جديدة من التطور في الفكر المالي الأردني، حيث يتم الانتقال من مفهوم 'الإقراض التقليدي” إلى 'التمويل الإنتاجي”، بما يتماشى مع النظرية الاقتصادية الحديثة التي ترى في رأس المال الاستثماري أداة لإعادة توزيع الكفاءة وتحفيز الابتكار، لا مجرد أداة لتحقيق الربح.
من الناحية الاجتماعية، فإن هذا النوع من الصناديق يعكس مبدأ العدالة في الفرص الاقتصادية، إذ يسهم في خلق بيئة تمكينية للشركات المحلية، ويفتح المجال أمام قطاعات غير مصرفية للاستفادة من التمويل المؤسسي المستدام. وبذلك يصبح الصندوق أداةً لتحقيق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وهو أحد ركائز رؤية التحديث الاقتصادي الأردنية (2023–2033) التي تسعى لبناء اقتصاد إنتاجي قوي ومجتمع مزدهر.
صفقة 'نات هيلث”: استثمار في الصحة والابتكار
يشكل استحواذ الصندوق على حصة 27% من شركة نات هيلث نقطة تحول نوعية في فلسفة الاستثمار العام، لأن الشركة تمثل نموذجاً للشركات التي تجمع بين الخبرة التشغيلية المتراكمة والتحول الرقمي الممنهج.
فـ”نات هيلث” تمتلك خبرة تمتد لأكثر من 27 عاماً في إدارة التأمين الطبي، وتضم شبكة ضخمة تشمل أكثر من 10,000 مزوّد رعاية صحية داخل الأردن وخارجه، وتخدم حالياً أكثر من 400,000 مشترك عبر 65 شركة تأمين وصندوق ذاتي.
بهذه المعطيات، لا يمكن النظر إلى الاستثمار في 'نات هيلث” على أنه صفقة تجارية بحتة، بل هو استثمار في بنية صحية رقمية تُمكّن الاقتصاد الوطني من رفع كفاءة الإنفاق الصحي وتقليل الفاقد.
كما أنه ينسجم مع أحد محاور رؤية التحديث الاقتصادي المتمثلة في 'تحسين نوعية الحياة من خلال الابتكار في الخدمات الصحية”، ويجسد عملياً مبدأ الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تطوير الخدمات الحيوية.
المكاسب الاقتصادية والمالية: الربحية المستدامة وتنوع مصادر الدخل
من منظور اقتصادي كلي، تمثل هذه الصفقة تحولاً من الاستثمار المالي إلى الاستثمار الإنتاجي طويل الأجل، وهو ما يعزز من مرونة الاقتصاد الأردني ويحد من تأثره بالتقلبات الدورية.
أما من الناحية المالية، فإن العائد المتوقع للصندوق والبنوك المساهمة فيه سيكون ذا طبيعة مستقرة ومستدامة، لأنه ناتج عن نشاط خدمي أساسي مرتبط بحاجة المجتمع الدائمة إلى التأمين والرعاية الصحية.
وبالتالي، فإن أرباح الصندوق لا تعني مجرد زيادة في الإيرادات المصرفية، بل تعني توسيع قاعدة الدخل غير التقليدي للبنوك (Non-Interest Income)، ما يسهم في تقليل اعتمادها على الفوائد ويزيد من متانة القطاع المالي.
هذا التحول ينسجم مع النظرية المصرفية الحديثة التي تشجع البنوك على الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي بدلاً من الاكتفاء بالتمويل الاستهلاكي، لأن ذلك يعزز التوازن بين الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي الحقيقي.
الانعكاسات الاجتماعية والتنموية: الصحة كمحرك للنمو الشامل
استثمار الصندوق في 'نات هيلث” يحمل بعداً اجتماعياً عميقاً. فالرعاية الصحية ليست سلعة كمالية بل حق أساسي ومكوّن رئيسي لجودة الحياة والإنتاجية الوطنية.
عندما تُدار خدمات التأمين الصحي بكفاءة أعلى وبتكنولوجيا متقدمة، فإن ذلك ينعكس مباشرة على الرضا الاجتماعي، واستقرار سوق العمل، ورفع الإنتاجية.
كما أن توسع 'نات هيلث” بدعم الصندوق سيسهم في خلق فرص عمل جديدة في قطاعات التكنولوجيا والإدارة والخدمات الطبية، مما يعزز قدرة الاقتصاد على استيعاب الشباب في مجالات نوعية.
هذه النتائج تترجم عملياً البعد الاجتماعي لرؤية التحديث الاقتصادي، الذي يقوم على مبدأ أن الاستثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار في البنية التحتية أو الصناعة.
إن دعم القطاع الصحي من خلال أدوات استثمارية هو شكل جديد من الرأسمالية الاجتماعية، التي تربط بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة في توزيع المنافع.
المخاطر والتحديات: موازنة الربحية مع التنمية
رغم الإيجابيات الكبيرة للصفقة، فإن هناك تحديات ينبغي إدارتها بحكمة لضمان استدامة النجاح.
أولها، محدودية السيولة، إذ أن الاستثمار في شركات غير مدرجة يحد من سهولة التخارج.
وثانيها، المخاطر التنظيمية المرتبطة بتغير السياسات الصحية أو التشريعات الناظمة للتأمين.
وثالثها، أن تحقيق التوازن بين الأهداف التنموية للصندوق والغايات الربحية للبنوك المالكة يمثل تحدياً مؤسسياً يحتاج إلى وضوح في الحوكمة والرؤية.
لكن من منظور النظرية الاقتصادية المؤسسية، فإن وجود مثل هذه التحديات لا يقلل من جدوى المشروع، بل يعزز أهمية الإدارة الذكية للمخاطر، باعتبارها عنصراً مكملاً لأي عملية استثمارية استراتيجية.
خاتمة: نحو نموذج أردني جديد في الاقتصاد الاستثماري
إن تجربة صندوق رأس المال والاستثمار الأردني في استحواذه على 'نات هيلث” تمثل نقطة التقاء بين النظرية والممارسة، بين الرؤية الاقتصادية والسياسات الواقعية، وبين الهدف الربحي والمصلحة الوطنية.
لقد برهن الصندوق أن الاستثمار العام يمكن أن يكون رافعة حقيقية للتحديث الاقتصادي، إذا ما تم توجيهه نحو قطاعات إنتاجية ذات أثر اجتماعي ملموس.
فالصفقة لم تخلق قيمة مالية فحسب، بل رسخت نموذجاً وطنياً في التمويل الذكي المسؤول، الذي يجمع بين البعد الاقتصادي والبعد الإنساني، ليشكل أحد أعمدة التحول نحو اقتصاد أردني إنتاجي متنوع ومستدام.