هبة محمد خليل عاملة النظافة صاحبة اليد الأمينة والمهنة الشريفة

رم -

مهدي مبارك عبد الله

قال الله تعالى ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) صدق الله العظيم

الأمانة ليست مجرد صفة شخصية حميدة بل هي ركيزة وطنية تربط بين جميع أفراد المجتمع وتبني جسور الثقة بين الناس خاصة في عالم تعددت فيه ضغوط ومغريات الحياة اليومية التي قد تدفع البعض إلى اتخاذ قرارات مغايرة لقيمهم وصلابة ايمانهم بالحق والخير ومخافة الله خين تتغير القيم وتتبدل فيه الأولويات

العمال البسطاء يواجهون تحديات كبيرة للحفاظ على أمانتهم وضمائرهم في أي موقف طارئ مع حاجتهم الملحة للمال والعيش الكريم في ظل تزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل كاهلهم ورغم كل ذلك تطل علينا بين الحين والآخر مواقف إنسانية عظيمة ومضيئة تذكرنا بأن النبل ما زال يسكن القلوب وأن خشية الله والإيمان بالحلال والحرام لا تقاس بالراتب أو المنصب بل تعرف بضمير الإنسان ونقائه

هذا ما جسدته بكل معانيه السامية والمشرفة العاملة الرائعة صاحبة اليد الامينة والمهنة الشريفة ( هبة محمد خليل ) التي تعمل لدى مؤسسة الشهد للخدمات في مستشفيات البشير والتي وجدت نفسها قبل يومين أمام امتحان قلما يواجهه أحد حين عثرت على مبلغ مالي ضخم يقدر بـ 27991 دولارًا أمريكيًا أثناء قيامها بعملها بتنظيف القاعة الحرجة في المستشفى وبرغم ما قد توحي به الظروف المحيطة من إغراء أو حتى من مبررات وهمية يتشبث بها البعض لتبرير الاستيلاء على ما لا يحق لهم اختارت هبة أن تكون مثالًا للضمير الحي والأمانة الخالصة فسارعت لتسليم المبلغ إلى مفرزة الأمن ف المستشفى دون أن تتردد أو تفكر مرتين

السلوك الذي أقدمت عليه هبة لا يمكن قراءته كمجرد فعل فردي عابر بل هو مرآة تعكس قيمًا متجذّرة في وجدان أبناء هذا الوطن الذين وإن تباينت مستوياتهم المادية أو التعليمية يظل رابط الخوف من الله ومحاسبة النفس حاكمًا في لحظة الحقيقة وان تصرف هبة يطرح علينا سؤالًا عميقًا ومفتوحًا إلى متى يبقى مثل هؤلاء الشرفاء و النبلاء في الظل دون أن يتم تكريمهم من أعلى المستويات ولماذا لا نُعيد صياغة مفاهيم البطولة اليومية لتشمل من يحفظون المال العام والخاص ويصونون الأمانة في غفلة من الكاميرات والضجيج الإعلامي أو المصلحة الذاتية

الإدارة العامة لمستشفيات البشير ممثلة بمديرها الدكتور علي العبداللات أعربت مشكورة عن تقديرها العميق لما قامت به العاملة هبة وأكدت أن هذا الموقف يعكس أصالة القيم التي يحملها أبناء الأردن ومؤسساته لكن التقدير لا يجب أن يبقى محصورًا في عبارات الشكر والثناء بل يجب أن يتحول إلى تكريم رسمي حقيقي يرتقي إلى حجم الفعل بل وربما أبعد من ذلك بتحويل قصص مثل قصة هبة إلى نماذج تعليمية في المدارس والمنابر الإعلامية حتى نُعيد الاعتبار لفكرة أن الأمانة بانها ليست مجرد واجب وظيفي بل عقيدة ايمانية داخلية متجذّرة في أصل التربية والانتماء والخشية من الله

حين تظهر عاملة بسيطة في وظيفتها عظمة في موقفها فإنها بذلك تضعنا جميعًا أمام اختبار المبدأ وتذكرنا بأن القيم لا تسكن في القصور فقط بل تنبض في قلب كل من يخشى الله ويرجو رضاه وتدعونا إلى أن نعيد الاعتبار لهؤلاء الجنود المجهولين الذين يبنون مجد الوطن بأفعالهم الصامتة ومع ذلك لا يُسلّط عليهم الضوء كما يجب فهل آن الأوان لأن ننظر إليهم بوصفهم روافع معنوية ومجتمعية تستحق التقدير والتكريم والدعم

ما فعلته العاملة هبة ليس فقط استردادًا لمبلغ مالي بل هو استرداد لثقة المجتمع في ذاته وفي قدرته على أن يظل نقيًا رغم كل الضغوط وهو أيضًا رسالة ضمنية لكل من ظن أن المال يمكن أن يشتري الضمير ولكل من اعتقد أن البطولات حكر على من يمتلكون الشهرة أو النفوذ البطلة اليوم هي عاملة نظافة لم تمتلك إلا مخافة ربها وعزة نفسها وهيبة موقفها وصدق نواياها وهذا ما يجعلنا نرفع لها القبعة احترامًا ونطالب بأن تكرّم كما يليق بالأبطال الحقيقيين في هذا البلد

امام كل ذلك لا يمكن أن ننظر إلى ما قامت به هبة بوصفه حالة منفردة ومعزولة عن سياقها بل هي واحدة من سلسلة مواقف مشرفة تكررت مع عدد من عمال النظافة المخلصين في أمانة عمان الكبرى وبلديات المملكة حيث أثبت هؤلاء العاملون في الظل أنهم حراس القيم وأنهم يحملون من الأمانة ما يجعلهم قدوة في زمن كثرت فيه المغريات وضعفت فيه الرقابة الرسمية والشخصية ومع تكرار مثل هذه الحوادث النبيلة يبرز سؤال غائب لماذا لا يتم تسليط الضوء الإعلامي الواسع على هذه القصص ولماذا لا تجرى مقابلات تلفزيونية في برامج محلية نشاهدها جميعًا ليعرف أبناء الوطن والعالم من هي صاحبة هذا الخلق الرفيع ولماذا ايضا لا نخصص تقارير صحفية معمقة وحوارات مباشرة تنقل هذه النماذج من خلف الكواليس إلى قلب المشهد العام

إن تسليط الضوء على أمثال هبة لا يكرمها فقط بل يمنح المجتمع بأسره طاقة إيجابية ويعيد ترسيخ مفاهيم باتت مهددة بالانقراض في زمن القيم السائلة كما يؤكد أن بناء المجتمعات لا يتم فقط عبر الخطط الاقتصادية الكبرى بل من خلال تعزيز الإنسان ومبادئه وهويته الأخلاقية الراسخة

هنا يبرز سؤال هام وملح لا بد أن يطرح بصوت عالٍ اذا كنا نكرم المبادرات الخلاقة ونستقبل أصحاب الإنجازات المجتمعية لماذا لا يتم استقبال ( هبة محمد خليل ) في الديوان الملكي العامر من قبل رئيس الديوان معالي الاستاذ يوسف العيسوي كما يتم استقبال الشيوخ والوجهاء وأصحاب المبادرات المجتمعية والاقتصادية أليس ما قامت به هذه الفتاة البسيطة يمثل مبادرة أخلاقية وإنسانية تستحق أن يفرد لها مجلس احترام وتكريم في أعلى مرجعيات الدولة وأليس فعلها النبيل يشكل قدوة حقيقية لأولادنا وبناتنا وأليست مبادرتها أبلغ من آلاف الخطب الرنانة والندوات الحاشدة وهي بلا منصب ولا سلطة ولا مال وانها اهم من كثير من المبادرات التي تلقى الأضواء والتمويل والدعم فلماذا لا تكرّم كما يكرم أصحاب المشاريع الرائدة وهي التي قدمت مشروعًا أخلاقيًا كبيرا بحجم الوطن

لا يخفى على أحد أن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الفرد، بل يجب أن تتكاتف المؤسسات الحكومية والخاصة في خلق بيئة عمل تُحفّز على النزاهة والالتزام من خلال توفير برامج تدريبية وحوافز معنوية ومادية وشهادات تقدير دورية حيث يمكن لهذه المؤسسات أن ترفع من معنويات العاملين وتُشجعهم على تقديم أفضل ما لديهم وإن تكريم الأمانة والعمل المخلص ليس مجرد واجب أخلاقي بل خو استثمار حقيقي في بناء ثقافة عمل إيجابية تعزز من جودة الخدمات وتدعم الاستقرار الاجتماعي وترسيخ من مفهوم الأمانة كقيمة مجتمعية حية تنبع من أعماق النفوس

لقد أثبتت قصة هبة محمد خليل أن الأخلاق والضمير الحي يمكن أن يكونا قوى تغير وتُبدع في أصغر التفاصيل لذا فإن دعوتنا اليوم يجب أن تكون لإعادة النظر في كيفية تقدير وتعزيز هذه القيم في مجتمعنا من خلال إدخال نماذج مثل هبة في المناهج التعليمية وتكثيف التغطية الإعلامية لهذه القصص ورفع مستوى التكريم الرسمي والاهلي حيث يمكننا بناء جيل جديد يحمل الأمانة والضمير في قلبه لان التغيير الحقيقي يبدأ من تمكين الإنسان وتعزيز قيمه وان بناء المجتمعات لايتم فقط بالاهتمام بالاقتصاد والسياسات بل في ايضا في القلوب التي تحكمها المبادئ السامي

مرة اخرى إن ما قامت به هبة ليس مجرد تصرف عابر بل لحظة أخلاقية نادرة في زمن يضج بالتناقضات حيث وضعتنا جميعًا أمام مرآة ضميرنا الوطني والاجتماعي وأجبرتنا أن نسأل أنفسنا من جديد من هم الأبطال الحقيقيون ومن يستحق فعلاً أن يشار إليه بالبنان فالحقيقة الساطعة ان هبة رفعت رأسها ولم ترفع صوتها لكنها في صمتها دوت كألف خُطبة وكسرت جدار اللامبالاة الذي اعتدنا عليه تجاه أمثالها

الخاتمة : البطلة الرائعة ( هبة محمد خليل ) لم تنتظر مكافأة ولم تطلب شهرة لكنها تستحق أن تتقدم الصفوف أون يُروى فعلها في المدارس والمعاهد والجامعات كما تروى بطولات الكبار وأن ترفع صورتها على جدران المؤسسات لا كمجرد عاملة نظافة بل كرمز وطني لقيمة عليا تسند الوطن في لحظات ضعفه فالأمانة لا تشترى ولا تفرض بل تولد من معدن أصيل وهبة اليوم تذكرنا من جديد بأن في هذا الوطن الغالي كنوزًا حقيقية لا تسكن في الفلل والقصور والمنتجعات بل تكنس الممرات بصمت وكرامة ومن هنا فإن تكريمها ليس مجاملة ولا إحسانً ولا منة بل هو استحقاق وطني يجب أن نفيه عاجلًا لا آجلًا ليذكرنا بأن الأردن لا يزال بخير ما دام فيه من يحمل قلبًا مثل قلبها وضميرًا مثل ضميرها

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

[email protected]