اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٦ نيسان ٢٠٢٥
د.الحسبان يكتب : غابت السياسات فهيمنت السياسيات؛ المشاريع الدولية في بعض الجامعات مثالا ..
كتب د.عبدالحكيم الحسبان
قبل أزيد من ست سنوات، عاشت إحدى الجامعات الحكومية الكبيرة تجربة إدخال التعليم الالكتروني ولأول مرة في احدى مراكزها التي تطرح مساقات اجبارية للطلبة، وقيض لي أن أراقب التفاصيل وحال الفوضى الكبيرة التي عايشها الطلبة، والاداريون، والقسم الفني المعني اضافة للاساتذة الذي اجبروا على الانخراط في التجربة. وأجزم أن الحصيلة كانت كارثية بكافة المقاييس، وبدأ فشل التجرية وحتى قبل أن تبدأ على الارض، حين قرر القائمون على لتجربة اختيار مساقات تتعلق بتدريس أحدى اللغات الاجنبية كي يتم تدريسها الكترونيا دون أدنى تمييز بين بين أنماط عمليات الاكتساب والتعلم .
فالمنطق يقول أن بعض عمليات التعلم يهدف الى اكساب الطلبة معلومات بحتة، في حين يقوم بعضها على اكساب الطلبة مهارات، ويهدف البعض الاخر إلى اكساب الطلبة منظومات للقيم والاخلاق وصولا لاكساب الطلبة منظومات سلوكية. وعليه، فإن بعض عمليات التعلم من قبيل اكساب الطلبة للمعلومات يمكن استخدام الوسائل التقنية في عمليات التعلم فيها، في حين أن اكتساب اللغة يندرج ضمن اكتساب المهارات وهو يتم عبر ملكات اللاوعي فينا أكثر من ملكات الوعي التي تتطلب انخراط الفرد في مواقف تفاعلية يعيشها العقل اللاواعي.
التجربة التي عاشتها الجامعة، وعايشتها ثبت أنها تندرج ضمن مخرجات أحد المشاريع الممولة من الاتحاد الاوروبي والتي انخرط بها بعض العاملين في الجامعة، تدخلنا إلى سلسلة من القضايا الكبرى ولا تندرج مطلقا ضمن اليوميات العادية أو التفاصيل الصغيرة الهامشية. فأن يكون المشروع ممولا خارجيا، فهذا يطرح قضايا العلاقات الدولية والصراعات السياسية والايديولوجية، وأن يكون المشروع ممولا خارجيا فهذا يطرح قضية أي الاولويات التي ينبغي أن تسود؛ هل هي الاولويات المحلية أم أولويات الممول الخارجي اللاوطني وكلنا يعرف اصطفافات الاتحاد الاوروبي السياسية والايديولوجية. وأن يكون المشروع ممولا ومصمما خارجيا، فان احد القضايا التي يجب ان تطرح تصبح فيما إذا كانت كل فكرة قادمة من سياق ثقافي خارجي ولو كانت ممتازه، هي مناسبة وقابلة للنجاح في السياق الثقافي والاجتماعي الاردني دون دراسة هذه الجوانب بحثيا على الارض؟؟؟
وأما أن يكون المشروع ممولا خارجيا عبر ثلاثة أو اربعة اساتذة من هذه الجامعة أو تلك ثم تتحول مخرجات المشروع إلى أجندا للجامعة كلها، فهذا ينبغي أن يطرح أكبر الاسئلة وأخطرها حول المحتوى التعليمي والمناهج التعليمية في الجامعات وكيفية وضعها، ومن يملك شرعية التحكم في تفاصيلها، وما هي التعليمات الناظمة لها؟ وهل الاليات المحترمة الرشيدة التي وضعها صانع القرار حين أسس الجامعات ذات يوم وجعل من العقول المتخصصة في الاقسام، ثم مجالس الكليات ثم لجان الخطط في عمادة البحث العلمي، ثم مجلس العمداء، وصولا لمجلس الامناء وهيئة الاعتماد، هل الاليات الرشيدة هذه ما زالت تعمل؟ ولماذا تتوقف هذه الاليات عندما يتعلق بالمشاريع الدولية ومخرجاتها التي بات يتطلب الكثير منها صياغة، واعادة صياغة، وادخال عناصر جديدة في الخطط الدراسية.
قد يستلزم النقاش بداية تثبيت فكرةاو مبدأ أن المناهج الدراسية والمحتوى الدراسي في العصر الحديث ليس مجرد تفصيل صغير، أو قضية تقنية بحتة، أو موضوع علمي عادي، بل إن المناهج الدراسية في العصر الحديث هي قضية القضايا وهم أم الاشكاليات الانسانية، بل هي أم القضايا في عصر الحداثة. لطالما أشرت الى تلك الدراسات التي خلصت أن عصر صناعة الدول والامبراطوريات بقوة السيف ونبالة الفرسان قد انتهى، وان الزمن الحديث عن زمن صناعة الامم وصناعة الجغرافيا السياسية للامم بقوة العلم، والمدرسة ، والمنهاج والقلم. فقد تجاوزت الامتين الامريكية والسوفييتة حدود جغرافيا الارض لتصل الفضاء بقوة العلم والمنهاج والمدرسة. فنحن نعيش عصر نبالة الثوب الجامعي وليس نبالة سيف الفارس القروسطوي.
وللاشارة لمركزية المنهاج الدراسي في حياة الامة وفي العلاقات الدولية، فمن المهم الاشارة إلى عشرات التصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف وهو يتهم بعض دول الاتحاد الاوروبي بالعدائية تجاه روسيا من خلال قيامها بتغيير منهاجها الدراسي. كما يمكن الاشارة للعديد من التوترات التي شهدتها العلاقات الصينية –اليابانية، واليابانية-الكورية، وكان المنهاج الدراسي في صلبها. فالمنهاج الدراسي هو الذي يحدد كل عناصر انتاج الامة بدءا من قائمة المهارات العلمية والمعلوماتية وصولا إلى تحديد قائمة الاصدقاء والاعداء لهذه الأمة.
ولان المنهاج الدراسي هو أم القضايا في العصر الحديث، من المهم التوقف كثيرا عند معنى أن يكون المنهاج الدراسي في العالم العربي والاسلامي هو قضية القضايا لعدة إدارات اميركية متعاقبة. ولا أدل على هذا الاهتمام الاميركي المحموم بالمناهج الدراسية هو تسمية إبنة نائب الرئيس الاميركي الاسبق ديك شيني بملف إعادة صياغة المناهج في المجتمعات العربيةوالاسلامية. وبالتوازي مع هذا الاهتمام الاميركي فهناك اهتمام اوروبي محموم أيضا على تغيير المناهج في الدول العربية، وهو الذي يمكن ملاحظته بسهولة في المشاريع التي يمولها الاتحاد الاوربي من خلال الجامعات. كما يكفي الاشارة إلى حجم المال الهائل الذي يوفره الغرب والمتعلق بتغيير المناهج وبادخال عناصر محددة في المنهاج. ولان منطق الامور يقول بأن من يملك المال هو الذي يملك الاجندة والصوت، فإن موضوع المشاريع الدولية والمال المتأتي منه بات يطرح الكثير من الكلام حول هوية الاولويات التي تعمل بها جامعاتنا، فهل الاولويات هي أولويات المؤسسة والوطن والعلم، ام هي أولويات الممول الاوروبي والاميركي؟؟؟
ولانني بحكم الهوية والتجربة أنتمي لجامعة اليرموك، ولان اليرموك أمست هي الجامعة الاكثر مأزومية وهو ما يتضح في تسجيلها للمديونية الاعلى ليس في تاريخها فقط بل وفي تاريخ الجامعات الاردنية كلها، فإن كثيرا من معطياتي ومن الامثلة التي اضربها تصبح من المنطقي أن تكون عن جامعة اليرموك، ليس لعوامل ذاتية بل لعوامل موضوعية بحتة. ففي كل الخراب الذي حصل في هذه الجامعة فتش عن المشاريع الدولية، وأبطالها، وبطلاتها. والحال أن واقع المشاريع الدولية والمأل المتأتي لجيوب البعض منها، استلزم أن يتم الامساك بأهم المفاصل في الجامعة ككلية الهندسة والمشاريع الدولية ومركز الريادة والمشاغل الهندسية ومركز الجودة ودراسات المرأة ووحدة نقل التكنولوجيا، وهي المفاصل التي كان الامساك بها شرطا ضروريا للامساك بالمشاريع الدولية ليسهل اتخاذ القرارات وتنفيذ ما تفرضه الجهات الدولية الممولة لهذه المشاريع. وهو الحال الذي نسج لنا جامعة باتت الحلقة الصغيرة التي تمسك بكل القرارات والتعيينات في الجامعة هي من تمسك بالمشاريع، وباتت الجامعة وقراراتها وكانها جامعة تسخر كل موجودتها لخدمة المشاريع الدولية وبضعة افراد من العاملين ممن يقودون هذه المشاريع. كما باتت هذه المشاريع هي من لون واحد في جامعة تتباهى بانها جامعة الالوان كلها على صعيد التخصصات، فهي جامعة لطالما عرفت بانها جامعة للعلوم الاجتماعية والتربوية والانسانية، ثم تحولت الى جامعة شاملة بعد انشاء كلية الاهندسة وكانا تساسيسها بدائ الامر بهدف ان تكون كلية تقنية
غياب الشفافية وغياب المؤسسية وانتقال الهامشي الى المركزي وتحول ما هو مركزي الى طرفي، وتهميش قوى المؤسسية في مقابل تغول قوى الشلة بل والعصبة داخل الجامعات، جعل كثير من القرارات هي قرارات لا تنتمي للمؤسسة بل تنتمي للمصالح والمنافع الضيقة للشلة والعصبة، كما أن حالا من عدم اليقين لدى العاملين بات يسود بحيث بات كثير من العاملين يشعرون وهم يطالبون بملء كثير من النماذج والفورمات وباللغة الانجليزية بأنهم لا يخدمون أجندة المؤسسة أو الاجندة الوطنية بل يخدمون الاجندة الشخصية لعدد من الافراد الذي يشكلون الشلة أو العصبة وبما يؤدي إلى تعبئة جيوبهم بالمال ومساعدتهم في تسويق انفسهم باعتبارهم أبطال فاتحين في عالم الريادة والعالمية والتصنيفات العالمية.
وغياب المؤسسية والشفافية بات يجعل كثير من العاملين في الجامعة ينخرطون في جهود على مساحة الليل والنهار قيل لهم أنها مطلوبة من هيئة الاعتماد، أو من مجلس التعليم أو مجلس الامناء أو لغايات الاعتماد الامريكي والكوري والهندي ليكتشف بعض العاملين أن جهدهم يندرج ضمن منتجات بعض المشاريع الاوروبية ومخرجاتها، وان هناك من يقبض ثمن جهدهم، وأن المؤسسة التي اعتقدوا أنه يبذلون الجهد من أجلها لا ناقة لها ولا جمل بكل الحصاد الوفير الذي تأتى من هذا الجهد الذي بذلوه.
لقد باتت المشاريع الدولية في الجامعات الاردنية تمثل نموذجا صارخا لتلك المساحات التي تتجسد بها تلك الفوارق الهائلة التي تنتجها لفظتي سياسات أي policies ولفظة سياسات أي politics . فالاولى تشير الى المصالح والاهداف والاستراتيجات المؤسسية والوطنية، في حين تشير اللفظة الثانية الى مصالح الفرد والشلة وأهواؤه وطموحاته ورغباته الخيرة منها والدنيئة. ففي موضوعة المشاريع الدولية في الجامعات نرى الغرب الامريكي والاوروبي قادما يحمل سياساته، كما نرى من هو بين ظهرانينا من يتلقف سياسات الغرب منخرطا حتى اخمص قدميه في سياسياته. فيعبء جيبه الخاص من خدمته لهذه السياسات الغربية، ويحصل على النياشين واوسمة البطولة في الريادة والابتكار كي يحصل على الترقيات الاكاديمية والادارية المتواصلة. فشتان ما بين' سياسي 'الاوروبي و'سياسيات' عضو الشلة أو العصبة.