اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٣ كانون الأول ٢٠٢٥
دهاليز السياسة وصراع الحقيقة… حين يصبح الصدق آخر الأسلحة
عوني الرجوب
في زمنٍ تتبدّل فيه المواقف كما تتقلب الرياح، وتتلاحق الوجوه حتى تتماهى الأقنعة بالوجوه، يبقى السؤال الأكبر: أين الحقيقة في دهاليز السياسة المعاصرة؟ الحقيقة التي طالما كانت السيف والدرع للعدالة، صارت اليوم رفاهيةً يندر أن ينالها الصادقون.
السياسة لم تعد مجرد ساحة للمبادئ، بل أصبحت ملعبًا للمراوغة، حيث يُلبس الكذب ثوب الدبلوماسية، وتُقدَّم الالتفافات على الحق باعتبارها فنون القيادة. أما الصدق، فغالبًا ما يصبح تهمة، تلاحقه الأعين، ويستهدفه الزمان في سعيه لإخفائه تحت ستار المصالح.
العالم اليوم مسرحٌ ضخم، تُدار فيه الأحداث خلف الستار، وتوزع فيه الأدوار بعناية فائقة، وتُنسج النصوص لتسحر العيون قبل العقول. لكن الثمن، كالعادة، يدفعه المواطن العادي، بينما يظهر على المسرح أبطالٌ مؤقتون صنعهم ضوء الإعلام، وتبخرت صورتهم حين سقط الستار، وبقيت الحقيقة صامتةً، صامدةً رغم كل شيء.
نرى السياسيين يتحدثون عن السلام بأصابعٍ ملطخة بالحروب، وعن العدالة وأيديهم ما تزال تعانق القتلة. تُضاء الكاميرات، ويعلو التصفيق، ويصدق الناس مشهدًا مكتوبًا بعناية لتجميل الباطل. هذا هو زمن تتداخل فيه الأقنعة بالوجوه، وتصبح الصور أهم من الواقع.
المعارك اليوم لم تعد تُخاض بالسلاح فقط، بل بالكلمة والرمز والخطاب الذي يوجَّه ليضلل العقول ويشوّه الحقائق قبل أن تُشوّه المدن. تُقتل الضمائر قبل أن تُقتل الأوطان، وتُمنح الشرعية للقوة لأنها قوة، لا لأنها حق، ويُحاصر الصادق لأنه لم يعتد لغة الالتفاف.
لكن التاريخ لا يُخادع، والزمن لا يهادن. سرعان ما تتهاوى صور الذين اعتلوا المجد على أكتاف الأكاذيب، فيكشف الله القناع، فتتحول أسماؤهم إلى مجرد هامشٍ باهت في ذاكرة الإنسانية، حيث تُكتب قائمة العار بحبر لا يمحى.
الشعوب، وإن صمتت، لا تنسى. قد تُخدع لحظةً، وربما تُنهكها الأيام، لكنها تحتفظ بالوعي وتنتظر لحظة الحساب. حين تنهض، فإنها لا تُساوم، بل تقتلع جذور المراوغة، وتعيد الحق إلى مكانه الطبيعي، فتصبح الكلمة أخطر من أي سيف.
في كل عصر، هناك صوت لا يُشترى، صوت يرفض الانحناء للاستسلام الجماعي، صوت يكتب بالضمير قبل الحبر، ولا يخشى الخسارة، لأنه يعرف أن خسارته الوحيدة هي الوقوف على عتبة الكذب. هذا الصوت، مهما بدا وحيدًا، يُربك المراوغين… لأنه يحمل رسالة واحدة: لا تفاوض مع الحقيقة.
ورغم الظلمة التي تحيط بالدهاليز، يبقى الأمل معركة مستمرة، تُخاض بالإيمان بأن الحق، وإن تأخر، لا يُهزم. فالأوطان لا تُبنى بالأقنعة، والشعوب لا تنهض بالمراوغة، بل بالإصرار على أن الكرامة لا تُباع، وأن الحقيقة لا تُساوم.
وفي نهاية كل دهليز، يظل النور حاضرًا، نورٌ يولد من صدق الشعوب وإيمانها بأن الصدق ليس رفاهية، بل سلاح أخير، لا يعرف الزمان حدودًا في قوته، ولا يستطيع الكذب أن يحجبه، مهما طال الليل.
الدهاليز قد تحجب الطريق، لكن الصدق يفتح أبوابًا لا تُغلق، ويصنع من الظلمة نورًا، ومن الخيانة حكاية تُروى لتذكّر الجميع بأن الحقيقة لا تموت، وإن طال السكوت












































