اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٩ تموز ٢٠٢٥
من وحي مؤشرات التعقيد الاقتصادي: رؤية التحديث الاقتصادي… إلى أين؟
كتب المهندس سعيد بهاء المصري
التعقيد الاقتصادي هو مؤشر يقيس مدى تنوع الاقتصاد وقدرته على إنتاج وتصدير سلع وخدمات عالية المعرفة والتقنية، والتي يصعب على الدول الأخرى تصنيعها بسهولة. فكلما زادت قدرة دولة ما على إنتاج سلع معقدة وفريدة، ارتفعت درجة تعقيدها الاقتصادي، ما يعكس تقدمها الصناعي والتقني، ويمنحها فرصًا أكبر للنمو المستدام والتنافسية العالمية.
واقع القاعدة الإنتاجية: خامات تُصدّر… ونمو لا يُثمر
إن التركيز المزمن على تصدير المواد الخام والمنتجات الأولية ذات القيمة المضافة المتدنية – مثل الفوسفات، البوتاس، والمنتجات الزراعية الطازجة – جعل الاقتصاد الأردني عرضة لمحدودية النمو الهيكلي. فهذه الصادرات وإن وفرت عملة صعبة على المدى القصير، إلا أنها تنتمي لأسواق تنافسية مشبعة، تُعرف بأسواق 'التيار السائد' (mainstream markets)، حيث يتقلص هامش الربح ويغيب التميز.
ما يضاعف هذا التحدي أن ضعف التعقيد الإنتاجي يترك أثرًا مباشرًا على فرص تحسين مستويات الدخل، وخلق الوظائف النوعية، وتعزيز الاعتماد على الذات. لذا، فإن الإبقاء على هذه القاعدة التصديرية دون تطوير يشبه الدوران في حلقة مفرغة لا تفضي إلى نمو حقيقي.
فرص التحول: أين تكمن القفزة الممكنة؟
حددت الورقة خمسة قطاعات استراتيجية تمثل نقطة التقاء بين ما يمتلكه الأردن من بنية قائمة، وبين ما يمكن أن يقود إلى قفزة في التعقيد الاقتصادي:
- الصناعات الكيماوية المتقدمة: من الأسمدة الذكية إلى الكيماويات الدقيقة، والتي تبني على إرث الصناعات التحويلية التقليدية.
- الصناعات الغذائية المركبة: القائمة على الابتكار في التغذية والمعايير الصحية.
- المستحضرات الصيدلانية والبيوتكنولوجية: بتوسيع قدرات البحث والتطوير في صناعة دوائية لها جذور قوية في الأردن.
- المعدات الطبية والإلكترونيات الدقيقة: كصناعات تقنية مستقبلية تعتمد على بناء القدرات والهندسة التطبيقية.
- الخدمات الرقمية عالية التقنية: كقوة ناعمة تعتمد على المعرفة، وتخترق الأسواق العالمية دون عبء اللوجستيات.
هذه القطاعات ليست فقط أكثر تعقيدًا وقيمة مضافة، بل تتميز بأنها أقل ازدحامًا من حيث المنافسين عالميًا، مما يزيد من فرص التميز والنمو في سلاسل القيمة الحديثة.
التحدي المزدوج: القفزة التقنية والقفزة الاستثمارية
لتحقيق هذا التحول النوعي في هيكل الاقتصاد الأردني، لا يكفي التحليل الاستراتيجي والتخطيط النظري، بل نحن بحاجة إلى قفزة مزدوجة:
1. قفزة تكنولوجية: تبدأ من إعادة تأهيل وتفعيل منظومة البحث العلمي والتطوير التقني، التي تعاني من تراجع وضعف هيكلي. ويمكن هنا إقامة شراكات ممنهجة مع مراكز بحث دولية، إلى حين بناء الكتلة المحلية القادرة على توليد المعرفة والتقنية محليًا.
2. قفزة رأسمالية: وهنا تبرز أهمية تفعيل الأذرع التمويلية الوطنية الكبرى لتكون قاطرة تنفيذ للمشاريع التحولية في القطاعات ذات التعقيد الاقتصادي العالي، ومنها:
- شركة صندوق رأس المال والاستثمار الأردني، برأس مال 275 مليون دينار، ممول من ائتلاف البنوك الأردنية، وهي مصممة لقيادة استثمارات استراتيجية وطنية في القطاعات الإنتاجية الواعدة.
- صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي، والذي يدير أصولًا تبلغ حوالي 17.3 مليار دينار، ويمثل مصدرًا مستدامًا لتمويل مشاريع ذات عائد اقتصادي واجتماعي طويل الأمد.
هذان الصندوقان – إلى جانب أدوات تمويل أخرى مثل الصناديق السيادية الإقليمية، ومؤسسات التمويل العربية، ورؤوس الأموال المحلية – يمكن أن يشكلوا منظومة استثمارية متكاملة تتشارك المخاطر وتحقق الأثر التنموي، من خلال:
- الاستثمار في مشاريع صناعية وتقنية معقدة.
- إقامة شراكات مع مستثمرين عرب وأجانب.
- تحفيز القطاع الخاص المحلي للدخول في استثمارات إنتاجية غير تقليدية.
إن تحريك هذه الأدوات المالية باتجاه مشاريع التعقيد الاقتصادي هو ما سيضمن تحوّل الرؤية إلى واقع ملموس، ويُحدث الأثر المطلوب في معدلات النمو والتشغيل.
السياق الإقليمي والدولي: الفرصة في ظل الاضطراب
في ظل عقد ونصف من التحولات الجيوسياسية العميقة في الإقليم – من الحروب والانقسامات إلى تقلبات أسعار الطاقة والغذاء، وتباطؤ سلاسل الإمداد – فإن بناء اقتصاد معتمد على المعرفة والتكنولوجيا بات خيارًا وجوديًا لا رفاهية فيه.
الأردن الذي لطالما تميز بالاستقرار السياسي والموارد البشرية المبدعة، يملك نافذة ذهبية الآن ليصبح مركزًا إقليميًا للإنتاج المعرفي والصناعي المتقدم، شريطة أن تُنقل الرؤية من مستوى التصور إلى التنفيذ.
نحو مراجعة تطبيقية لرؤية التحديث الاقتصادي
بعد مرور ثلاث سنوات على إطلاق رؤية التحديث الاقتصادي، فإن المرحلة تقتضي مراجعة تطبيقية شجاعة تركّز على:
- إزالة المعوقات البيروقراطية أمام الاستثمار في القطاعات المستهدفة.
- تأسيس صناديق تمويل واستثمار وطني لدعم الصناعات المعقدة.
- مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات هذه الصناعات.
- بناء شراكات دائمة بين الحكومة والجامعات والقطاع الخاص.
أختم بالقول
النمو الاقتصادي المستدام لا يتحقق بالأمنيات ولا بالمسكنات، بل من خلال تغيير جذري في طبيعة ما ننتجه وكيف ننتجه ولمن ننتجه.
إننا أمام مفترق طرق حقيقي: فإما أن نعيد بناء قاعدتنا الإنتاجية بمعايير تعقيد أعلى وقيمة مضافة أكبر، أو نبقى رهائن لاقتصاد منخفض الإنتاجية لا يتجاوز نموه حدود الـ2%.
إن الطريق نحو نسبة نمو 5% ممكن، لكن شرطه أن نترجم روح رؤية التحديث الاقتصادي إلى مشاريع واقعية، ونربط رأس المال بالمعرفة، والسياسة الاقتصادية بالتنفيذ الميداني.