اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
في موسم الزيت: نحتَكم للضّمير أم للدّور الفاعِل للدّولة.
أزهر الطوالبة
في هذا العام، لم تكن أوراق الزيتون خضراء كما كانت دائمًا، ولم تلمع حبّاته بذاك البريق الذي اعتادته العيون في مواسم القطاف. موسمُ الزّيت ضعيف، والثمار شحيحة، والقلوب مثقلةٌ بالهمّ أكثر من جِرار الزيت الفارغة. وكأنّ البلاد التي تغنّت لسنواتٍ ببركة الزيتون، تعيش اليوم امتحانًا عسيرًا في الصبر والإنصاف معًا.
الأزمة، في ظاهرها، طبيعية. فالعوامل المناخيّة قلّصت الإنتاج، والآفات الزراعيّة لم ترحم بعض المزارع. لكن، ما هو غير طبيعيّ هو أن يتحوّل هذا الظرف 'المؤقّت' إلى فرصةٍ للنهش والاستغلال. فبينما يتحدّث الفلّاحون عن تعبهم وضياع موسمهم، تُفتح بورصات الأسعار على نحوٍ محموم، وتبدأ لعبة السوق القاسية، حيث ترتفع الأسعار كلّ يومٍ دون منطقٍ واضح، وكأنّ الزيت صار ذهبًا سائلًا لا غذاءً مقدّسًا.
لقد مرّت البلاد بظروفٍ مشابهةٍ في أعوامٍ مضت، وشهدت شحًّا أكبر في الإنتاج، لكنّ الأسعار لم تصل إلى هذه الفوضى المُربِكة. ما تغيّر ليس حجم الزيت، بل ضمير بعض المتحكّمين به. فكبار التجار والمضاربون دخلوا على خطّ الأزمة، يكدّسون الزيت في المستودعات بانتظار أن يرتفع السعر أكثر، ويبيعونه بأضعاف الكلفة، متذرّعين بندرة المحصول. وهكذا، يُلقى المواطن البسيط بين فكّين: الحاجة من جهة، والجشع من جهةٍ أخرى.
في القرى والأحياء الشعبية، المشهد مؤلم. الأُسر التي كانت تشتري تنكة الزيت لتكفيها طوال العام، صارت اليوم تشتري باللتر، أو تُقنّن استخدامه وكأنّها تتعامل مع دواءٍ نادر. كثير من العائلات تخاف أن لا تتمكّن هذا العام من 'تموين المونة' التي اعتادت عليها منذ أجيال؛ تلك المونة التي كانت رمز الأمان الغذائي وذاكرة البيت الريفيّ. صارت الطوابير أمام المعاصر مشهدًا مُثقلًا بالقلق، وصارت الأسعار تتبدّل أسرع من تعابير الوجوه المتعبة.
أمام هذا التغوّل، تقف الدّولة أمام مسؤوليةٍ مُضاعفة. فلا يكفي أن تُطلق التصريحات أو تُراقب من بعيد، بل ينبغي أن تنظّم السوق بحكمةٍ وعدالة. فالتدخّل المطلوب ليس تسعيرًا قسريًا جامدًا، بل ضبطٌ عقلانيّ للمنظومة كلّها:
منع الاحتكار والتخزين المبالغ فيه عبر رقابةٍ ميدانيةٍ حقيقية، لا شكلية.
فرض سقوفٍ سعرية مُنصِفة تأخذ بالحسبان كلفة الإنتاج، ولكن أيضًا قدرة المستهلك على الشراء.
فتح قنوات بيعٍ تعاونيةٍ مباشرة بين المزارع والمستهلك، لكسر حلقة المضاربة التي تتغذّى على وجع الناس.
تفعيل دور المؤسّسات الرقابيّة والتموينيّة، لا كسلطةٍ قمعية، بل كضامنٍ للعدالة الاقتصادية والاجتماعية.
فالدولة، في مثل هذه الأزمات، ليست طرفًا إداريًا فقط، بل هي صمّام أمانٍ اجتماعي. وعندما تُترك السوق بلا توجيه، يتحوّل الاقتصاد إلى غابةٍ يلتهم فيها القويّ الضعيف باسم 'قانون العرض والطلب'.
الأخطر من غلاء الأسعار هو انكسار الثقة بين المواطن ومجتمعه. فأن يشعر الناس بأنّهم متروكون لمصيرهم، وأنّ البعض يستغلّهم في لقمة عيشهم، هذا هو التهديد الحقيقي للنسيج الوطني ؛ لأنّ الزيت، في هذه البلاد، ليس سلعةً فحسب، بل ذاكرةُ بيتٍ وكرامةُ عائلةٍ وعنوانُ رزقٍ شريف.
ولذلك، فإنّ إنقاذ موسم الزيت لا يكون بانتظار المطر وحده، بل بعودة الضمير، وبدورٍ فاعلٍ للدولة، ووعيٍ جماعيٍّ يُدرك أنّ العدالة في القوت لا تقلّ قداسةً عن العدالة في القانون.
لقد تعوّد الناس أن يقولوا: 'إذا بارك الله بالزيتون، بارك بالبلد'، واليوم، ينبغي أن نقول أيضًا: إذا استعاد المجتمع إنسانيّته، فلن يخشى من شحّ الزيت، ولا من تقلّبات السوق.