اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٢١ حزيران ٢٠٢٥
بالرغم من أن مصطلح «الأشخاص السَّامة» يعد حديثًا، لكنه اكتسب شهرة عالمية في وقت قصير، وخاصة مع الألفية الثالثة. ويعد السبب الرئيسي في ذاك الانتشار والاهتمام العالمي بسمات «الأشخاص السَّامة» وكيفية تلافيهم أو على الأقل تجنُّب ما ينشرونه من سموم هو معاناة الكثيرين بسبب أفعال بضع الأشخاص أو المنظومات التي تحيل حياة البعض إلى جحيم مستعر، أو قد تفضي بالشخص المسموم إمَّا قتيلًا أو منتحرًا.
ومصطلح «سام» ليس بالمصطلح النفسي الرسمي، بل إنه وصف لشعور الشخص الذي ينصب عليه التعامل السيئ الحقود من قبل البعض أو من قبل أفراد أو جهات عينها؛ حيث إن ما يحدث هو أشبه بوضع السُّم في حياة المرء، ما يجعل الشخص المسموم يتألم أو يشعر بآلام مبرحة، قد لا يكون هناك شفاء منها. والأشخاص السَّامون لا يضعون حدودًا واضحة لتعاملاتهم، وتوصف سلوكياتهم بأنها صعبة ومثيرة للتحدِّي ومتطلِّبة، وعندما تكون عدائية يصير تأثيرها فورياً. ويُلاحظ أن العلاقات أو الأشخاص السَّامين هدفهم تلبية احتياجات شخصية وإشباع رغبات كامنة. وذاك النوع من العلاقات تكمن خطورته في أنه ظاهرة غير صحية وتقوِّض المساواة بين الأفراد. ودون شك، تُفسد أي بادرة خير في أي علاقة.
وغالبًا ما يعاني الأشخاص السَّامون من اضطرابات نفسية، وما يحدثونه من تأثير ضار على الضحية يعكس ما يعانون منه من اضطرابات في الشخصية، قد تكون نتيجة تراكمية للتربية والتنشئة المبكرة، والمعتقدات، وظروف الحياة، والتجارب السابقة، علمًا بأن جميع الأشخاص السَّامين يعانون من إحساس بالنقص والدُّونية ويحاولون الاستشفاء من خلال نفث سموم عقدهم النفسية على الآخرين.
ويشير خبراء الطّب النفسي أن الأشخاص الذين يُظهرون سماتٍ سامة لا يستحقون نفس التفهُّم والتعاطف الذي ينصح الخبراء بإغداقه على هؤلاء الذين تجرَّعوا مرارة السموم، بالرغم من أن تلك السمات قد لا تعبِّر عن هوية الأشخاص السّامّين الذين، في كثير من الأحيان، قد يكونون هم أنفسهم ضحايا لأزمات نفسية أو أوقات عصيبة قد مروا بها مسبقًا، وسمومهم ضرب من ضروب الانتقام لأنفسهم. وعلى النقيض، هناك أشخاص آخرون يستمتعون بمعاناة الآخرين من جرَّاء السموم التي ينشرونها بسبب الإحساس بالدونية وعدم الكفاءة، وهذا في حد ذاته اضطراب نفسي سلوكي يجب علاجه نفسيًا، علمًا بأن الشفاء قد يكون مستحيلًا.
وعلى مرَّ التاريخ، يرتع الأشخاص السَّامون في مروج الأشخاص الذين شقُّوا طريقهم للنجاح، وكثيرًا من السامين استطاعوا الاقتصاص من المتميزين والثأر لنفوسهم الحقودة المكلومة، والأمثلة التاريخية على هذا لا تعد ولا تحصى، وإن كان أبرزها على الإطلاق هو الموسيقي العبقري «موتسارت» الذي تسبب الموسيقار الحاقد عليه في خسارة موتسارت لمكانته الاجتماعية والأموال التي كان من الممكن أن يحصدها بسبب موهبته الفذَّة، وأخيرًا موته فقيرًا معدمًا في ريعان شبابه بعد إصابته بمرض السُّلّ.
وإن كان التاريخ زاخرًا بالنماذج السَّامة، هناك أيضًا البعض الذين استطاعوا التَّصدي لهم وتلافي تأثيرهم قدر المستطاع، ومن هؤلاء العالم العربي المبجَّل السيرة والمحتفى به عالميًا إلى وقتنا الرَّاهن «ابن سينا»، ذاك العالم والفيلسوف العربي الذي بلغت شهرته في زمانه أوجها، وكان نموذجًا للفيلسوف الحكيم الذي برع في علوم شتَّى. وبالرغم من شهرته الحالية كواحد من أباطرة الطب الذي وضع المنهاج العلمي لذاك الفرع من العلوم والذي بنيت على أساسه قواعد الطب الحديث؛ وجدير بالذكر أن مخطوطات «ابن سينا» الطبّية كان يتم اعتبارها أحد المراجع المهمة في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، وله اكتشافات مذهلة في هذا المجال، بل ويكفي القول إنه أوَّل من وضع أسس الطب النفسي وكيفية الاستشفاء بطريقة حديثة جدًا، في زمان كان ينظر للمريض النفسي على أنه مجذوب أو أصابه مسّ من الجان.
ولد «الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي» الشهير باسم «ابن سينا» (980-1037)، في بلدة بالقرب من بخارى – «أوزبكستان» في الوقت الحالي – ابنًا لأسرة من طائفة الإسماعيلية الباطنية، واهتم أبوه بأن يلقنَّه أفضل علوم زمانه، وخاصة لما تبدَّى على الطفل من أمارات ذكاء غير مسبوق جعلت مدرسه، وهو لم يتجاوز بعد العشر سنوات، يدرِّسه كتبًا في المنطق وعلم الهيئة والفلسفة، وجميعها علوم يستعصي فهمها على الكثيرين، بل وقد يدرسها أيضًا من تجاوزوا العشرين أو أكثر من العمر.
ولمَّا بلغ العشر سنوات كان حافظًا للقرآن والحديث، وغدا يتعلَّم الرياضيَّات والفلك وعلوم المنطق وعلوم الكلام. وولعه بالجانب التطبيقي من العلوم انعكس على رغبته في تعلُّم الطب، وهذا لأمرين: لأنه علم ينفع به النَّاس، ولرغبته في دخول معترك ذاك المجال الذي تتباين فيه الآراء. ومن الطريف أن صيته كطبيب شهير بالغ المهارة بلغت أوجها وهو في سن السابعة عشرة فقط، وهي تمامًا نفس السنة التي منحه فيها الطبيب الذي يعلِّمه ويقوم بالإشراف عليه إجازة ممارسة الطب، وتدريسه. وساعده على ذلك كثرة التدرُّب على المهنة عمليًا؛ وذلك لأنه كان يداوي مرضاه مجَّانًا. ولقد مسك بزمام هذا العلم لدرجة أن أحد أقواله الشهيرة عن مهنة الطب: «الطب ليس علمًا شاقًا وشائكًا»، ما يعكس مدى قدرته على تحليل تشخيص العلوم، واستخدام ما هو متاح لديه من خامات لوصف الدواء.
وفيما يبدو أن حبَّه لفعل الخير قد أثمر؛ فحينما مرض أمير الدّيار «نوح ابن منصور» مرضًا أعجز أطبَّاء القصر وأشهر أباطرة المهنة أن يعالجوه، تم تزكية «ابن سينا» ليقوم بمداواته. وكانت مفاجأة الأمير أن يرى ذاك الطبيب الشهير مجرَّد صبي في مرحلة المراهقة. لكن المفاجأة الكبرى كانت استطاعته أن يصف الداء والدواء الناجع، وعلى إثر ذلك برأ الأمير. ومكافأة لـ «ابن سينا»، فتح الأمير للأخير باب الاختيار حسبما يشتهي، فما كان من «ابن سينا» إلَّا أن طلب أن يفتح له الأمير أبواب المكتبة السامانية؛ حتى يطَّلع على أحدث وأرقى مخطوطات العلوم، ولا يحافظ على مكانته التي لا يماريه فيها أحد فقط، بل لكيلا يستطيع أحدهم في يومًا ما إزاحته عن القمَّة التي بلغها.
ولذلك، قربَّه الأمير منه وأصبح جوهرة التاج في مجلسه، ما أثار غيرة الحاقدين، وبات همَّهم طوال الوقت، للنيل منه والحط من منزلته. لكن ذاك الأمر كان يستعصي عليهم على الدوام، بالرغم من كثرة القلاقل في الدولة العبَّاسية، وتوالي الغازين والأمراء على زمام الحكم. فلقد كان وجود «ابن سينا» في مجالس جميع الحكَّام شرفًا لهم، وليس العكس، كما هو الحال بالنسبة للعلماء الآخرين.
ثم أخذوا يدبرون له المكائد له. فعلى سبيل المثال، جاء أحد كبار النحويين في عصره وانتقد لغته العربية، فما كان من «ابن سينا» إلَّا أن عكف على دراسة اللغة العربية لثلاث سنوات، بل وألَّف فيها المخطوطات التي فاقت علم المتنمِّر عليه. فلم يكن ابن سينا من ذاك الصنف من البشر الذي قد يطفئ نوره من أجل استرضاء الآخرين أو الإبقاء على الودّ، بل على النقيض؛ كان شديد الاعتزاز بنفسه متفاخرًا، وذا تصريحات نارية ضد كل حاقد. وفي وصف نفسه يقول:
بأي مأثرة ينقاس بي أحد بأي مكرمة تحكيني الأمم
إنِّي وإن كانت الأقلام تخدمني كذاك يخدم كفِّي الصّارم الخذم
فهو يتفاخر بنفسه، ويعي أنه مهما تم وصف ومدح مدى تفوُّقه، لن يفيه ذلك حقُّه، لأنه أعلى وأعظم مما يصفون. وتلك الأقلام الكثيرة التي تناصره تشابه تمامًا بطشه بأي من الغوغاء الذين يهاجمونه.
كان ابن سينا يتلذذ بإهانة وإذلال الحاقدين عليه، وربما يعزى ذلك لامتلاكه فتوَّة الشباب. أضف إلى ذلك، فإنه أيضًا لم يكن ذاك الصنف من العلماء الناسكين العاكفين، على العكس تمامًا، كان حينما ينفض مجلس العلم، يهرع للسهر واللهو؛ ووصفه أحد تلاميذه بأنه واحد من أكبر المقبلين على الحياة وأكثرهم ميلًا للعب واللهو.
ومن ذاك المدخل، حاول الحاقدون -عندما أعيتهم الحيل- اتهامه بالكفر والزندقة، بل واتَّخذوا من مرض الأمير مرضًا عضالاً فرصة للنيل من ابن سينا، وبالفعل قاموا بأسره. لكن عندما برأ الأمير، فكّ أسره على الفور. وسنحت فرصة ذهبية أخرى عندما مات الأمير بعد مهاجمة مملكته، وعلم ابن سينا أنّ حاسديه يخططون لقتله، ففرّ من القصر متخفيًّا في زي الدراويش ليتلقَّاه الأمير الجديد وينزله نفس المكانة التي حظي بها، وحينها أيضًا حافظ ابن سينا على تألُّقه، ولم ينصع لكيد الحاسدين والحاقدين.
خطة ابن سينا عند لقاء الأشخاص السَّامين هي التزام «القوة» و»الاعتزاز بالذًّات» و»المحافظة على التفوُّق والصدارة»، وجميعها نقاط صنَّفها الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» على أنها ركائز «إرادة القوَّة» التي تصنع السوبرمان. ولو أُطلق على ابن سينا في عصره، وفي السير التالية له، لقب «الشيخ الرئيس»، فإنه من المُنصف أن نطلق عليه في عصرنا الحالي لقب «التجسيد الفعلي لشخصية السوبرمان».