اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٠ حزيران ٢٠٢٥
ستة وعشرون عاماً من القيادة مسيرة لا تعرف الانكسار
د. هاني العدوان
في ظل عبق الذكرى الوطنية التي تلامس وجدان كل أردني، ذكرى الاستقلال التي رسمت ملامح السيادة والكرامة على جبين التاريخ، نقف اليوم أمام استحقاق وطني لا يقل قداسة، ذكرى مرور ستة وعشرين عاماً على تولي جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين سلطاته الدستورية، ذكرى تحمل في طياتها محطات لا تُعد من الكفاح والرؤية والبناء
إنها لحظة تأمل في مرآة الوطن، نستحضر فيها الإرادة الهاشمية التي لم تنحنِ أمام رياح التحديات، ونستعيد فيها وعي شعب صاغ تجربته السياسية والاجتماعية بأظافره، وحمل راية النهضة مهما اشتدت عليه الظروف
لم تكن هذه المسيرة نزهة على ضفاف الاستقرار، بل كانت درباً حافلاً بالأشواك، سلكه الأردن بعزيمة لا تلين، وإرادة صلبة لا تعرف التراجع، أزمات اقتصادية عاصفة، واضطرابات إقليمية متلاحقة، وضغوطات لا تتوقف، كلها كانت كفيلة بإرباك كيان أي دولة، إلا أن الأردن بقي صامداً، يستمد تماسكه من حكمة قيادته وتكاتف أبنائه
كانت التوجيهات الملكية دوماً تشكل بوصلتنا، ترسم حدود الممكن وتدفع نحو المستحيل، تجسدت في كتب التكليف السامية التي لم تكن يوماً حبرا على ورق، بل محطات تحول ومنارات إصلاح
واليوم، وقد باتت كلفة الحياة تثقل كاهل المواطن وتغتال أحلام البسطاء، بات لزاماً أن تعاد قراءة الواقع بلغة جريئة ومسؤولة، فغلاء الأسعار لم يعد ظاهرة عابرة بل عرضاً لأزمة أعمق تتشابك فيها عوامل خارجية ببنية اقتصادية تحتاج إلى مراجعة شاملة، مراجعة تعترف بالخلل ولا تجمله، وتقرن الخطاب بالفعل لا بالتبرير
إن مسؤولية الحكومة لا تتوقف عند ضبط الأسعار، بل تتعداها إلى ابتكار الحلول، وتفعيل الرقابة، وتحفيز القطاعات الإنتاجية، وفتح الأبواب أمام الاستثمار النوعي، شريطة أن يقترن ذلك كله ببيئة نزيهة، شفافة، لا تتكئ على المحسوبية، ولا تقف عاجزة أمام الفساد المقنع
ولعل من أهم الفرص التي يمتلكها الأردن اليوم، تلك التي تختزنها ثرواته غير المستغلة، من اقتصاد رقمي قادر على خلق واقع اقتصادي مغاير، إلى سياحة نوعية تعكس تنوعنا الطبيعي والحضاري، وصولاً إلى مشاريع الطاقة المتجددة التي يمكن أن تجعل الأردن رقماً صعباً في معادلة الأمن الطاقي إقليمياً، كل تلك الإمكانات بحاجة إلى إرادة سياسية جادة، وإدارة كفؤة، لا تعرف التسويف ولا ترضى بالحلول السطحية، فالمشاريع الكبرى لا تقاس ببريقها الإعلامي، بل بأثرها في تحسين جودة الحياة، وتوفير فرص العمل، وتعزيز العدالة في توزيع المكتسبات
وفي قلب هذا الطموح الاقتصادي، تبرز الحاجة الملحة لإعادة هندسة منظومة الاستثمار جذرياً، بما يزيل كل العوائق التشريعية والإدارية التي تنفر رؤوس الأموال بدل أن تجذبها، لا بد من قوانين مرنة وعادلة، وتسهيلات حقيقية لا شكلية، وإرادة تحصن المستثمر من الابتزاز البيروقراطي والبيئة الطاردة
أما الإصلاح السياسي، فقد كان أحد أبرز العناوين التي حملها المشروع الملكي منذ سنواته الأولى، وقد شهدنا محطات مهمة في هذا المسار، من أبرزها تشكيل لجنة التحديث السياسي، التي خرجت بقانون انتخاب جديد يهدف إلى تجديد الحياة الحزبية والبرلمانية، لكن هذا القانون، رغم ما حمله من أمل، لم يستطع بعد أن يحرر العملية الديمقراطية من شوائبها العالقة، فما زال المال السياسي يتسلل إلى المفاصل الحساسة، يفرغ الإرادة الشعبية من مضمونها، ويجعل من الصناديق وسيلة لتدوير الأسماء لا لتغيير الواقع، ومن هنا لا بد من مقاربة أكثر حزماً وشمولاً تضمن تطهير العملية الانتخابية من التزوير الناعم، وتمنح الكفاءات العلمية، والقوى الشابة والمرأة الفرصة الحقيقية للمشاركة الفاعلة في صياغة القرار
ولأن الديمقراطية لا تنضج في مناخات الخوف، فإن إعادة النظر في قوانين الجرائم الإلكترونية بات ضرورة لا مفر منها، فحرية الكلمة المسؤولة ليست ترفاً، بل حجر الزاوية في بناء دولة المؤسسات، ووجود صحافة وطنية حرة وملتزمة لا يعني الانفلات، بل يعني القدرة على النقد البناء، وفتح الملفات دون تهييج، ومساءلة الأداء لا الأشخاص، كما أن وجود أحزاب سياسية حقيقية، غير خاضعة لسطوة الفرد الواحد، ولا مصممة على مقاس المسؤول، هو شرط أساسي لخلق حياة سياسية ذات معنى، لا بد من إنهاء ظاهرة 'حزب المسؤول'، حيث يتحول الوزير السابق إلى زعيم حزبي بين ليلة وضحاها، ويعيد إنتاج المنظومة ذاتها التي فشلت في التجديد
وفي موازاة ذلك، يظل الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد خط الدفاع الأول لبناء دولة حديثة، نعم، تمت خطوات في هذا المضمار، لكن الجدية تقتضي المضي إلى العمق، لا الإكتفاء بحملات موسمية، الفساد الإداري أخطر من المالي، لأنه يشل مؤسسات الدولة من الداخل، ويصيب المواطن باليأس ويقتل الكفاءة، لا بد من منظومة رقابة صارمة، ومساءلة حازمة ، ومحاسبة رادعة
ويبقى الشباب، هذا المورد الذي لا ينضب، صمام أمان الوطن وأمله في التغيير، لا يمكن أن تبنى نهضة دون تمكين فعلي لهم، لا شعارات تردد على المنابر ثم تخذل في أرض الواقع، تمكين الشباب يعني شراكتهم في القرار، وفتح المجال أمامهم للابتكار، وتوفير فرص عمل حقيقية لهم، لا إنتظار طويل على أرصفة البطالة
وفي قلب هذا كله، تطل التحديات الاجتماعية برأسها، فآفة المخدرات صارت كابوساً ينهش جسد المجتمع، وتهدد استقراره الأخلاقي والنفسي، مجابهتها لا تكون فقط عبر الأمن، بل عبر التعليم والتوعية والأسرة والإعلام، كما أن أزمات المياه والطاقة تتطلب مقاربات استراتيجية لا ترقيعية، فالإستدامة لم تعد خياراً، بل ضرورة وجودية للأجيال القادمة، التعليم كذلك يجب أن يعاد بناؤه من الجذور، ليخرج من عباءة التلقين، ويدخل إلى فضاء التفكير والإبداع، ويواكب متطلبات سوق يتغير كل يوم
ولن يكتمل الحديث دون التوقف عند المشهد الإقليمي، حيث يواصل الشعب الفلسطيني صموده تحت نيران القهر والعدوان، إن موقف الأردن، بقيادة جلالة الملك، لم يكن يوماً رمادياً ولا متردداً، بل كان صوتاً صادقاً في نصرة فلسطين، وداعماً ثابتاً لحقها في الحرية والدولة، لكن التحديات لا تقتصر على البعد الإنساني فقط، بل تشمل آثاراً سياسية واقتصادية مباشرة على الأردن، مما يجعل دوره في الإقليم أكثر محورية ومسؤوليته مضاعفة في زمن تغيب فيه العقول وتعلو فيه الأصوات
إن الأردن، في لحظته الوطنية هذه، لا يقف فقط على أعتاب ذكرى، بل على مفترق طرق، خيارنا أن نكون كما كنا دوماً، أصحاب مشروع لا رد فعل، دولة تصنع مستقبلها بوعي أبنائها لا بانفعالات اللحظة، مسؤوليتنا جميعاً أن نحمل الحلم ونصونه، أن نكون أمناء على إرث الآباء، وأن نبني على ما تحقق، لا أن نكتفي بالتغني به
إنه الوطن، بكل ما يعنيه من انتماء، وبكل ما يحمله من أمل، وطن لا يساوم على كرامته، ولا يفرط بثوابته، ولا يقبل إلا أن يكون كبيراً بقيادته وشعبه