اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٩ كانون الأول ٢٠٢٥
سوريا بعد سنة من رحيل حكم آل الأسد #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي -
شهادة مراقب من بلاد الشام… كان يحلم أن تعود سوريا لأهلها
في المشرق الذي تعلّم أن يتنفس من رئة دمشق، لم يكن سقوط حكم آل الأسد، بعد عقودٍ من السيطرة على الدولة والمجتمع، مجرد حدث سياسي عابر. بالنسبة لملايين السوريين، ولكل من أحبّ سوريا من بعيد أو قريب، كانت تلك اللحظة أشبه بانكسار جدارٍ ثقيل عاش الناس تحته أجيالًا، وبداية امتحان قاسٍ في الوقت نفسه: هل تستطيع سوريا أن تعود لأهلها فعلًا، أم أن الفراغ الذي تركه الحكم القديم سيفتح أبوابًا أخرى للفوضى والوصاية؟
من موقع رجل من بلاد الشام، عاش عمره وهو يرى سوريا قلب هذا الإقليم، وسمع حكاياتها في البيوت والمجالس قبل أن يراها في نشرات الأخبار، تبدو صورة 'سوريا الجديدة” بعد سنة من رحيل الحكم القديم مزيجًا معقّدًا من الأمل والوجع، من الفرح الحذر والخوف العميق.
فرحة بلا ساحات… ووجع لا يزال في الشارع
في الأيام الأولى بعد سقوط الحكم، امتلأت الشاشات ومواقع التواصل بصورٍ بدت كأنها تنتمي لحلم بعيد:
أعلامٌ سورية بلا شعارات حزبية، هتافات تنادي بالحرية والكرامة دون أن يختفي أصحابها في الأقبية، ووجوه شبانٍ فقدوا نصف عائلتهم لكنهم يرفعون لافتة تقول:
'سوريا إلنا… مو مزرعة لحدا.'
لكن مع مرور الشهور، بدأت الفرحة الأولى تخفت أمام أسئلة الواقع الصعب:
كيف تُدار دولة مدمَّرة البنية؟
من يعيد الكهرباء والماء والمدارس والمستشفيات؟
ومن يضمن ألا تتحول ثورة الحرية إلى صراعِ سلطةٍ بين أحزاب وميليشيات ورعاةٍ خارجيين؟
من خارج الحدود، يبدو المشهد أكثر وضوحًا وأشد قسوة في آن واحد:
سقوط النظام شيء، وبناء الوطن من جديد شيء آخر تمامًا.
دولة تبحث عن عمود فقري
بعد سنة من رحيل آل الأسد، تبدو مؤسسات الدولة السورية كجسدٍ يتعلم المشي من جديد بعد عملية جراحية قاسية.
هناك حكومة انتقالية تحاول رسم ملامح المرحلة الجديدة، ومجلس وطني يجمع معارضاتٍ قديمة وحديثة، ولجان دستورية تسعى إلى كتابة نصٍّ يضمن تداول السلطة ولا يعيد إنتاج الاستبداد باسم الثورة.
لكن المشكلة ليست في الأوراق، بل في الأرض:
مناطق لا تزال تحت تأثير السلاح والفصائل.
قرى وبلدات يحكمها أمراء الحرب السابقون الذين بدّلوا راياتهم لكنهم احتفظوا بعقلية السيطرة.
نفوذ إقليمي ودولي يتنافس على من يمسك بمفاصل القرار: دولة تريد ضمان حدودها، وأخرى تبحث عن نفوذ اقتصادي، وثالثة تريد أن تبقي سوريا ساحة تفاهم أو صراع مع خصومها.
في وسط هذا كله، يحاول السوري العادي أن يفهم:
هل عادت سوريا فعلًا للسوريين، أم أنها انتقلت فقط من يدٍ واحدة إلى أيادٍ كثيرة؟
ومن خارج سوريا، يسأل العربي الذي يرى في دمشق جزءًا من ذاكرته: هل تعود هذه البلاد يومًا إلى نفسها قبل أن تُختزل في خرائط الآخرين؟
مدينة تعود للحياة… وأخرى تحصي المقابر
في سنة ما بعد الحكم القديم، يمكن أن ترى المشهدين معًا في اليوم نفسه:
في بعض الأحياء من دمشق وحلب وحمص واللاذقية، بدأت المقاهي تفتح أبوابها من جديد، المدارس تستقبل الأطفال، اللافتات الجديدة تتحدث عن 'إعادة الإعمار”، عن مشاريع تمويل صغيرة للشباب، وعن عودة جزء من النازحين من المخيمات.
وفي مدن أخرى وقرى بعيدة، لا تزال الذاكرة أثقل من القدرة على الفرح.
البيوت المهدَّمة تذكّر الناس بأسماء غابت تحت الركام، والمقابر الجماعية المفتوحة حديثًا تعيد للسطح قصص الذين اختفوا في زنازين الأجهزة الأمنية أو في أقبية الميليشيات، دون أن يجد أهلهم حتى الآن جوابًا حقيقيًّا لسؤال:
'أين أولادنا؟”
هنا يقف السوري الذي يحاول أن يبدأ من جديد أمام جرحين:
جرح الماضي الذي لم يُنصف بعد، وجرح الحاضر الذي يحاول أن يفرض عليه 'نسيانًا سريعًا” باسم المصالحة الوطنية.
ويقف العربي من بلاد الشام وهو يراقب المشهد بقلبٍ مثقل، يشعر أن جزءًا من روحه معلّق هناك، حيث تختلط أسماء الشهداء بصوت الشام القديم.
بين العدالة والانتقام… خط رفيع اسمه الحكمة
من أخطر التحديات بعد سقوط أي نظام طويل، هو كيف يمكن تحقيق العدالة دون الانزلاق إلى الانتقام.
في سوريا، بعد سنة من رحيل الحكم، يظهر هذا التحدي بوضوح:
عائلات الشهداء والمعتقلين تريد محاسبة كل من تورّط في القتل والتعذيب والنهب.
موظفو الدولة السابقون يخشون أن يُعامل الجميع كجلادين فقط لأنهم كانوا جزءًا من جهازٍ لم يملكوا أمامه خيارات كثيرة.
المجتمع الدولي يطالب بهيئات تحقيق ومحاكم انتقالية، بينما تخشى قوى داخلية أن يؤدي فتح الملفات كلها إلى انفجار جديد.
في الشارع، يتكوّن شعور ثالث:
نريد عدالة حقيقية لا تمحو الجريمة، ولكننا في الوقت نفسه نخاف أن يبتلعنا حريق الثأر.
وبين هذا وذاك، يبدو أن الطريق الوحيد هو بناء مؤسسات قضائية مستقلة، تعترف بالضحايا، وتضع منتهكي الحقوق أمام القانون، دون تحويل البلد كله إلى محكمة انتقام مفتوحة.
حلم الاستقلال الثاني
في عمق كل نقاش عن شكل النظام الجديد، وعن الدستور والبرلمان واللامركزية والانتخابات، يوجد سؤال واحد يطرحه السوري على نفسه كل ليلة:
هل هذه هي المرة الأولى التي ستكون فيها سوريا 'سورية” فعلاً، لا ساحة نفوذ لأحد؟
بعد سنة من رحيل الحكم القديم، تظهر بوادر وعي جديد لدى جيلٍ كامل:
شباب لم يعد يؤمن بالشعار الواحد ولا بالحزب الواحد ولا بالزعيم المعصوم.
نقاشات مفتوحة على وسائل التواصل وفي المقاهي والجامعات حول معنى الدولة، مفهوم المواطنة، والحقوق والواجبات.
عودة تدريجية للمثقفين والكتّاب والصحفيين الذين عاشوا في المنافي، ليشاركوا في صياغة خطاب جديد لا يخاف من النقد.
هذا الجيل لا يريد سوريا التي تعيش على حافة الخوف الدائم من السلطة، ولا سوريا التي تتسوّل شرعيتها من الخارج، بل دولة يشعر فيها أي مواطن، من الحسكة إلى درعا، بأن له نفس القيمة وأمام نفس القانون.
صوت رجل من بلاد الشام… يخاف على حلمه
بعد سنة من رحيل آل الأسد، لا يمكن القول إن سوريا تعافت، ولا يمكن أيضًا اعتبارها ضاعت نهائيًّا.
هي الآن في المنطقة الرمادية التي تسبق إمّا الولادة الجديدة أو الانهيار الكامل.
من موقع مراقب من بلاد الشام، يرى في سوريا جزءًا من روحه وتاريخه، يمكن تلخيص اللحظة بجملة واحدة: نحن اليوم في امتحان أكبر من سقوط النظام، امتحان ألّا نُسقط الدولة، وألّا نسقط نحن من إنسانيتنا.
وحين يعود هذا الوطن إلى أبنائه، ويستعيد موقعه الطبيعي في قلب المشرق، لن تكون سوريا قد عادت للسوريين فقط، بل ستكون قد عادت لعربها أيضًا؛
عادت من غربةٍ طويلة عن أمّتها، لتجلس من جديد في غرفة الأمة الكبيرة، لا كعبءٍ مكسور، بل كقلبٍ نابض يحمل الوجع… ويصنع الأمل.












































