اخبار الاردن
موقع كل يوم -الوقائع الإخبارية
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
الوقائع الإخبارية : بعيدًا عن بريق ناطحات السحاب في وادي السيليكون، وفي أعماق صحارى تشيلي القاحلة، تدفع الطبيعة والسكان الأصليون ثمن التقدم التكنولوجي. ففي الوقت الذي تُبنى فيه نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي على خوادم عملاقة، تُستنزف موارد طبيعية ثمينة من صحراء أتاكاما لتلبية احتياجات هذه الطفرة الرقمية.
ثمن التقدّم تعتمد مراكز البيانات، التي تُشكل العمود الفقري لتقنيات الذكاء الاصطناعي، على كميات ضخمة من الطاقة والمعادن النادرة، أبرزها النحاس والليثيوم. وتعد تشيلي أكبر منتج للنحاس في العالم، كما توفر نحو ثلث الإنتاج العالمي من الليثيوم، وهو عنصر أساسي في بطاريات السيارات الكهربائية وأجهزة الذكاء الاصطناعي.
لكن هذا الازدهار الاقتصادي لا يأتي دون كلفة باهظة. فعمليات التعدين المكثفة لا تقتصر على تغيير شكل الأرض، بل تؤدي إلى تدمير ممنهج للبيئة وتقويض المجتمعات المحلية التي عاشت لقرون في انسجام مع الطبيعة.
ذاكرة الألم سونيا راموس، ناشطة من السكان الأصليين وُلدت في عائلة تعمل في مجال التعدين، لا تزال تتذكر كارثة منجم 'تشوكيكاماتا' في خمسينيات القرن الماضي، عندما انهار جزء من المنجم مخلّفًا ضحايا ودمارًا اجتماعيًا عميقًا. ومنذ تلك الحادثة، كرّست راموس حياتها لمناهضة ما تصفه بـ'نظام يستنزف الأرض والبشر بلا رحمة'.
بيئة تحت الحصار
اليوم، تحوّلت مناطق واسعة من صحراء أتاكاما إلى مدن أشباح بعد أن جفّت مصادر المياه واختفت النظم البيئية التي كانت تزدهر في السهول الملحية. أحد هذه السهول جف بالكامل، تاركًا وراءه ندوبًا بيئية لا تُقدّر بثمن.
السكان الأصليون، المعروفون باسم 'الأتاكامينوس'، يعانون من تبعات هذا التغيير. لم يعد بإمكانهم الزراعة أو تربية الماشية، فيما ارتفعت معدلات الجريمة والإدمان والاكتئاب، وتراجعت الخدمات الصحية والتعليمية، رغم أن أراضيهم تُدر المليارات من عائدات التعدين.
الذهب الأبيض.. بين الأمل والدمار
في ستينيات القرن الماضي، وخلال بحث إحدى الشركات الأميركية عن المياه لتعدين النحاس، اكتُشفت تركيزات عالية من الليثيوم في 'سالار دي أتاكاما'، أكبر مسطح ملحي في تشيلي. منذ ذلك الحين، أصبحت المنطقة هدفًا لاستخراج الليثيوم بطريقة تتطلب ضخ المحلول الملحي في برك ضخمة ليجف تحت الشمس، وهي عملية تُلحق أضرارًا كارثية بالنظام البيئي.
من نتائج ذلك، اختفاء طيور النحام الوردي التي يراها السكان 'أشقاءً روحيين'. واليوم، تحتفظ طفلة صغيرة، ابنة أحد زعماء القبائل، بدُمية على شكل فلامنغو، تذكارًا لمخلوقات لم ترها يومًا.
الذكاء الاصطناعي والتكلفة البشرية
مع تسارع تطور الذكاء الاصطناعي، يتزايد الطلب على الطاقة والمعادن النادرة، ما يدفع نحو المزيد من التعدين. لكن وسط هذا التقدم، يتساءل السكان الأصليون: 'تقدم لمن؟'.
الناشطة كريستينا دورادور، عالمة أحياء دقيقة، تقول إن المجتمعات المحلية لا تملك حق تقرير مصيرها، وإن السياسات الدولية هي من تحدد مستقبل الأرض والسكان.
تمييز رقمي وصورة مشوّهة
لا يتوقف الضرر عند الموارد البيئية. فحتى الصور التي تُنتجها نماذج الذكاء الاصطناعي عن الشعوب الأصلية، كما كشف معرض فني في البرازيل، تُكرّس صورة نمطية تَصورهم كـ'شعوب بدائية ومتخلفة تكنولوجيًا'، ما يضيف بُعدًا جديدًا من التمييز الرقمي بحقهم.
نضال من أجل البقاء
في السنوات الأخيرة، بدأت المجتمعات الأصلية في مقاومة هذا الواقع. رفعوا الأعلام السوداء على بيوتهم، نظموا احتجاجات وقطعوا الطرق المؤدية إلى المناجم، واستعانوا بمحامين للدفاع عن حقوقهم وفقًا للقانون الدولي. يطالبون بإجراء أبحاث مستقلة لحساب كميات المياه المفقودة وتقييم الأضرار البيئية التي لحقت بصحراء أتاكاما.
أمل في مستقبل مختلف
راموس، التي أسست مؤسسة محلية، تسعى لتقديم نموذج تنموي بديل يجمع بين المعرفة التقليدية والعلوم الحديثة. تؤمن بأن صحراء أتاكاما، رغم قسوتها، تخفي أسرارًا بيولوجية يمكن أن تساهم في ابتكار علاجات جديدة ومصادر طاقة مستدامة، دون الحاجة إلى تدميرها.
في زمن يتغذى فيه الذكاء الاصطناعي على موارد الكوكب، تُذكّرنا أتاكاما بأن أي تقدّم لا يُراعي الإنسان والطبيعة، ليس سوى خطوة إلى الوراء، مهما بدا لامعًا.