اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ١٩ أيار ٢٠٢٥
سمعت باسمها عرَضا قبل سنوات وأنا أمارس شغفي بتتبع كل ما يتعلق بشاعرتي الأثيرة فروغ فروخزاد، فقد تَرجمَتْ بعض قصائد فروغ من الفارسية إلى الإنكليزية، ولم أتوقف عند الاسم كثيرا، إذ كانت اللغتان العربية والفارسية كافيتين لي للاستمتاع بقصائد فروغ، ثم بعد ذلك بسنوات وأنا أتابع أخبار الجوائز الأدبية قرأت فوزها سنة 2003 عن مجموعتها القصصية «ضوء القمر» بجائزتين مرموقتين في الأدب الفارسي هما جائزة «يلدا» الأدبية وجائزة «هوشنگ گلشیری» (وللأسف توقفت كلتا الجائزتين)، يومها قرأت مجموعتها القصصية، واطلعت على بعض قصائدها، التي جمعَتها من قبل في ديوانها «ضائع»، ولكنها لم تستطع أن تخلِّصني من أسْر فروغ، فملعبها الأساسي كان السرد رواية وقصصا قصيرة وليس الشعر.
وبقيَتْ قراءة ما كتبت شيوا عندي مشروعا مؤجّلا، إلى أن فوجئت قبل أيام بصفحات وسائل التواصل تنقل خبر موتها منتحرة، في نص قصير ساهم «النسخ واللصق» في سرعة انتشاره بكثرة، خاصة أنه ذُيّل بمقطع مؤثّر قيل – ولا دليل على ذلك – أنه آخر ما كتبت «لا أريدك أن تتبرعمي من النافذة، أنتِ زهرة صغيرة وجميلة سرعان ما تذبل، هيا نضع نقطة النهاية».
والغريب أن الأغلبية الساحقة ممن نشر هذا الخبر المستنسخ عن وفاتها، لم يسمع باسمها إلا لحظة اعترض نظرَه النص القصير المذكور، فسارع البعض للبحث عنها في محركات البحث وبرامج الذكاء الاصطناعي، ليعود بمعلومات ضئيلة لا تشبع فضولا، فتاريخٌ من الكتابة امتد على أكثر من ثلاثة عقود ترك لنا، مجموعتين قصصيتين ومجموعتين شعريتين وست روايات، ولم يجد مع ذلك ناشرا عربيا يغامر بنقل بعضه أو مختارات منه إلى اللغة العربية. أليس غريبا أن أغلبية القراء العرب لا يعرفون من الكاتبات الإيرانيات سوى آذر نفيسي، وفروغ فروخزاد، ومن الكاتبات التركيات أليف شافاك بفضل الترجمة الإنكليزية التي عرّفت العالم على روايتها «قواعد العشق الأربعون»، ونجهل مثلا الشاعرة الباكستانية فهميدة رياض أهم صوت شعري يكتب بالأوردية؟
ما لفت الأنظار إلى شيوا أرسطوي ذات الاسم ذي الإيقاع الهندوسي/اليوناني ليس أدبها، بل ما ذكر عن انتحارها، رغم ما قيل أيضا من أن سبب الوفاة سكتة قلبية في ظل تكتم عائلتها وغموض صيغة إعلان ابنها عن الوفاة «أنا ابن شيوا إنها رحلت، حقا قد رحلت، رجاء لا تسألوا»، كما أن الصورة التي نشرت لتشييع جنازتها وتظهر فيها مجموعة من النساء من دون حجاب إسلامي في طهران يحملن نعشها ستسيل حبرا كثيرا، ولكن كل هذا لن يحول دون السؤال المحوري الذي يجب أن يطرح: من هي الروائية والشاعرة والمترجمة والممثلة أحيانا شيوا أرسطوي؟ وما موقعها في خريطة الأدب الإيراني الحديث؟
يمكن لموقع ويكيبيديا باللغة الفارسية (فلا صفحة عنها باللغة العربية) أن يخبرنا أنها من مواليد شهر مايو/أيار 1961 وهو شهر وفاتها نفسه، مما رجّح فرضية القائلين بانتحارها عن عمر الرابعة والستين، والذين استندوا أيضا على ما كانت تنشره في صفحتها على موقع إنستغرام من قصص أوَّلوها بميول انتحارية، وأضاف الموقع أنها حاصلة على البكالوريوس في الصحة العامة والماجستير في الترجمة الإنكليزية، غير أن أهم نقطتين في سيرتها الذاتية اللتين يجب إضاءتهما هما: توقيعها على بيان 134 كاتبا، والمعروف أيضا باسم بيان «نحن كتاب»، وهو رسالة مفتوحة وجهها كتاب وشعراء وباحثون ومترجمون إيرانيون، إلى دولتهم يطالبون فيها بحرية التعبير، والاحتجاج على الرقابة التي تعرقل نشر أعمالهم وتمنعها، ولشيوا تحديدا أسبابها القوية للتوقيع على البيان، فلها مع الرقابة صولات وجولات، حيث منعت روايتها «من أجل قُبلة في بودابست» من النشر وقد كتبتها قبل أكثر من عشر سنوات، ولا يوجد منها سوى كتاب مسموع بصوتها، ما دفعها إلى أن تكتب مرة «أمنيتي هي الحرية المطلقة في الكتابة ونشر أعمالي دون قيود. لا أريد لأي كاتب أن يلجأ إلى الصّمت بسبب الخوف»، وتُؤكِّد مرة ثانية «لم يكافح أحد مع النظام لنشر قصصه بقدر ما عانيت».
والنقطة الثانية في سيرتها علاقتها بالشاعر والناقد الأدبي الإيراني رضا براهيني ذي الميول اليسارية، فقد تبناها أدبيا ووجّهها في بداياتها، كما أنها درست الأدب القصصي لمدة أربع سنوات في الورش التي كان يقيمها، وتعاونت معه أيضا على ترجمة قصائد الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا من الإنكليزية إلى الفارسية، وقد دعمها براهيني كثيرا، فحين أصدرت وهي في الثلاثين من عمرها روايتها الأولى «عندما رأيتها أصبحت جميلة» نظّم لها ندوة لمناقشة الكتاب، ضمت كبار النقاد والكُتّاب الإيرانيين، وقد كتبت شيوا عن هذا الحدث بعدها «قلت لنفسي: كم أنا كاتبة محظوظة. لأن هذا لا يحدث مع الكِتاب الأول لأيّ مؤلِّف»، وذكرت أن مجموعتها القصصية «جئتُ لشرب الشاي مع ابنتي» كتبتها نتيجة هذا التشجيع، وبلغ من وفائها لمعلّمها أن جسدت سينمائيا دورا مستوحى من شخصية رضا براهيني. فقد كان لها اهتمام بالسينما منذ أن تطوعت في مجال الإغاثة منذ الأيام الأولى للحرب العراقية الإيرانية، فعملت مستشارة مخرج في العديد من الأفلام المتعلقة بالحرب، ومثّلت في بعض الأفلام القصيرة منها فيلم عن ملهمتها فروغ فروخزاد، كما كتبت النقد السينمائي.
في كل كتابات شيوا أرسطوي نجد المرأة وقضاياها هاجسَها الأول، خاصة أنها عاشت تعقيدات الوضع النسوي في إيران بعد سقوط الشاه، وقد لخصت ذلك في أحد لقاءاتها بكل دقة، حين صرحت «إن كونك إنسانا في هذه الظروف أمر صعب، وأن تكون امرأة هو أمر أكثر صعوبة»، ولكن موقفها من هذه القضايا لم يكن متطرفا نسويا بالمفهوم الغربي، كانت تؤمن بحق المرأة في الحرية والسعي لها، ولكن لا تنكر عليها خيارها إذا فضلت بيتها، كتبتْ مرة «إذا كانت هناك امرأة تحب مطبخها، فلماذا تنكر ذلك؟ لماذا يجب عليّ أن أنكر صفاتي الداخلية؟ بل على العكس، فأنا أؤكد عليها وأحوّلها إلى فضيلة ونصف». وتتمظهر المرأة في رواياتها بتجليات عديدة فنراها في لحظات الضعف مدمنة كما في رواية «الأفيون»، أو عاهرة كما في «بي بي شهرزاد»، ولكن نجدها أيضا فنانة أو رسامة أو كاتبة عن فعل الكتابة نفسها كما في روايتها «الطبعة الأولى»، توصل شيوا هذه الأفكار وغيرها كالشعور بالوحدة والقلق الاجتماعي بأسلوب اتجه منذ بداية التسعينيات إلى التجريب بعد أن كان كلاسيكيا، وهي المتمرسة في الكتابة الإبداعية ممارسة وتدريسا في جامعة طهران وغيرها. ولكنها واعية تمام الوعي أنها لا تكتب للفن لأجل الفن فهناك جمهور تتوجه إليه وتشرح ذلك «لا يمكنك أن تقول إنني أكتب قصة ولا يهم ما إذا كان أي شخص يقرأها أم لا.. إن القيمة الكاملة للنص السردي الذي أعمل عليه تكمن في اتصاله بالجمهور. وجمال عملي هو أنه ليس مكتملا من دون جمهور»، وهذا الوعي بمعرفة من تخاطب جعلها تنحاز لليومي والعادي في كتابتها، متسائلة بشيء من المرارة عن سبب خجل الكتاب الإيرانيين المعاصرين من الكتابة عن الأشياء العادية التي تحدث، وحرصهم على أن يكونوا فلاسفة لا يناقشون إلا القضايا الكبرى في حين ترى شيوا «أن الكلمات الأكثر أهمية تكمن في أكثر الكلمات اليومية». ولذلك ترفض البلاغة المفرطة والتحذلق اللغوي وتعلن ذلك بصوت عال «أنا لا أكتب القصص لأقول للقارئ: (انظر كم أعرف اللغة الفارسية جيدا، انظر كم أعرف حيل اللغة واستعاراتها). أنا شخص يريد أن يكتب قصته الخاصة في وقته الخاص».
كتبتْ شيوا أرسطوي عن الهوية والصراع الوجودي والجنس وعن الخوف وهو عنوان إحدى رواياتها وعن الجنون، ولكن كل هذا الهوس بالحياة، كتابة وتمثيلا وعملا اجتماعيا لم يحل دون انضمامها إلى قائمة الثماني وعشرين شاعرة في كتاب جمانة حداد «سيجيء الموت وستكون له عيناك». ليغيب شخص الشاعرة ويبقى الاسم الذي نصفه إله هندوسي مدمر ونصفه الآخر فيلسوف يوناني عقلاني، ويبقى صدى قولها في قصيدتها «الأسماء»: قصيدتي/ لا تُناسب قوامي/ اسمي لا يُلغي لقبي/ لكنكم لا تُريدون لقبي يا سادة/ لقبكم لا يُمكن أن يُناسب اسمي/ اقرأوا جريدتكم، إنها مليئة بألقابكم/ تخلصوا من لقبي.
شاعرة وإعلامية من البحرين