اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ تموز ٢٠٢٥
بلاد الشام والعراق: ألغام الهويات المتشابكة والحاجة إلى مصالحة فكرية ومجتمعية
بحث تحليلي من اعداد المهندس سعيد بهاء المصري
خريطة فسيفسائية معقّدة داخل وخارج الحدود
تشكل بلاد الشام والعراق حيزًا جغرافيًا وثقافيًا متداخلًا، تُعرّفه الفسيفساء السكانية المركبة، لا على أساس الجغرافيا فقط، بل على قاعدة التنوع الديني والمذهبي والعرقي. في العراق، توجد الانقسامات الشيعية-السنية، العربية-الكردية، والإيزيدية-الكلدانية، فيما تتمحور الهويات السورية حول الانتماءات العلوية والسنية والدرزية والكردية والمسيحية. أما لبنان، فخريطة طوائفه الـ18 المعترف بها دستوريًا لا تزال تعيد إنتاج واقع سياسي مجزأ، في حين تشهد فلسطين المحتلة والشتات انقسامات أيديولوجية ومناطقية عميقة بين الضفة وغزة والداخل.
ويُعد الأردن من أكثر الدول استقرارًا، لكنه أيضًا يستوعب تعددية أصول ومنابت في بنية مجتمعية نجحت الحكومة الأردنية في حكمها بمزيج من المواطنة والاعتراف الضمني بالخصوصيات.
هذا التعدد في حد ذاته ليس المشكلة، بل في غياب عقد اجتماعي حديث يستوعب التنوع ضمن بنية قانونية ومؤسسية تمنع تفجّره في أوقات الأزمات.
ما بعد الانهيارات: تفكك عمودي وأفقي في بنية الدولة والمجتمع
ما جرى في العراق بعد 2003، وفي سوريا بعد 2011، وفي لبنان بعد انهيار منظومة ما بعد الطائف، يكشف حجم التفكك العمودي (بين الحاكم والمحكوم) والأفقي (بين المكونات المجتمعية). في العراق، برغم ان النظام السياسي القائم يبذل جهدا في تحقيق حد ادنى من الوحدة الوطنية إلا أن المحاصصة الطائفية تساهم في تفكيك الدولة إلى منظومة ولاءات، وليس مواطنة.
وفي سوريا، أنتج الصراع الأهلي تدخلات خارجية وعلى راسها اسرائيل غذّت النزعة المناطقية والطائفية والميلشيوية.
أما لبنان، فإن اقتصاده المنهار ونظامه الطائفي المخضرم جعلا الطائفة هي الحامية الوحيدة للفرد، لا الدولة.
بحسب دراسات 'معهد عصام فارس” و”MERI” و”فريدرش إيبرت”، فإن أكثر من 65% من سكان المنطقة لا يثقون بالمؤسسات السياسية الرسمية، ويعتبرون أن انتماءهم المجتمعي أقوى من انتمائهم الوطني. كما تشير تقارير دولية إلى أن 40% من الشباب في سوريا ولبنان والعراق يفضلون الهجرة، ليس فقط لأسباب اقتصادية، بل لفقدان الأمل في إعادة بناء دولة موحدة.
العلاقات البينية بين دول المنطقة أسيرة الاصطفاف الهوياتي
حين تتأثر العلاقات بين العراق وسوريا أو بين الأردن ولبنان أو بين فلسطين والعراق بمواقف كل دولة من المكونات الهوياتية في الدولة الأخرى، فإن الحديث عن تكامل إقليمي يصبح مشروطًا بإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع داخل كل بلد أولًا. ذلك أن التضامن الرسمي بين الحكومات يصطدم غالبًا باصطفافات داخلية: فالمكون الكردي في العراق له رأي مختلف في العلاقات مع النظام السوري، والسنة العراقيون يرون في الأردن حليفًا طبيعيًا، بينما تنظر فصائل شيعية إلى لبنان كامتداد استراتيجي. وهكذا، تحضر الجغرافيا كمعبر لمعادلات الهوية، لا كجسر تعاون.
نحو مصالحة فكرية ومجتمعية تعبر فوق الهويات المتصلبة
الحل لا يبدأ من الدساتير فقط، بل من رأس الهرم الفكري. من هنا تنبع أهمية الدعوة إلى تأسيس ائتلاف مجالس فكرية لبلاد الشام والعراق، يقوم بدور المنصة الإقليمية الدائمة للحوار وإنتاج المعرفة وصياغة سردية جامعة تتجاوز الانقسامات التاريخية والهويات المتصلبة.
ويُفترض أن يتخذ هذا الائتلاف شكل شبكة فكرية مرنة عابرة للحدود، تضم مراكز تفكير ومؤسسات بحثية من دول المنطقة، وتعمل على تنسيق المبادرات والمشاريع وتغذية السياسات العامة بالأفكار والمقترحات القابلة للتطبيق، وتكون غير حكومية وغير خاضعة لأي تمثيل سياسي أو حزبي. كما يمكن لهذا الائتلاف أن يشكل مظلة فكرية للحوار المجتمعي ويسهم في إنتاج رؤى مشتركة لبرامج التماسك الاجتماعي والمصالحة والتربية على التنوع.
الذهاب إلى عمق المجتمعات… شبكة مصالحة ميدانية
بالتوازي مع البنية الفكرية والتنظيمية، لا بد من تحريك شبكة للصلح المجتمعي تستند إلى الجمعيات المحلية ومنظمات المجتمع المدني، تعمل على:
• إطلاق حوارات مجتمعية داخل المدن والأرياف في المناطق المتصدعة.
• تدريب القيادات الشابة على آليات فض النزاعات والتسامح الثقافي.
• دعم مبادرات تنموية تشاركية بين المجتمعات المختلفة (مثال: مشاريع تنموية بين قرى سنية وعلوية في سوريا، أو بين مخيمات فلسطينية ومناطق لبنانية).
• توثيق الروايات المجتمعية من أسفل إلى أعلى لبناء سردية تتجاوز الخطاب الرسمي المؤدلج.
إعادة إنتاج مجتمع منسجم عبر التنمية والشراكة الاقتصادية
لا يمكن تحقيق مصالحة مجتمعية حقيقية دون ربطها بتحسين شروط العيش وتعزيز الفرص الاقتصادية. إن إعادة إنتاج مجتمع منسجم ومتعايش في بلاد الشام والعراق تتطلب إطلاق مشاريع تنموية مستدامة تنبع من احتياجات الناس، وتُدار بروح تشاركية. فمثل هذه المشاريع لا تخلق فقط منافع اقتصادية، بل تعمّق أيضًا الشراكة بين مواطني الدول، وتُعيد بناء جسور الثقة بين المكونات الاجتماعية، وتُعزز التداخل الإيجابي بين الشعوب.
وعلى المستوى الإقليمي، يمكن لهذه المشاريع أن تشكل أساسًا لـ تنمية العلاقات الاقتصادية بين دول المنطقة، من خلال شبكات تبادل زراعي، وسلاسل توريد صناعية، وبنية تحتية عابرة للحدود. فكلما ازداد التشابك الاقتصادي، تراجعت دوافع الانقسام والتصعيد، وبرزت مصالح مشتركة تستدعي الحماية والبناء عليها.
سردية جديدة تتجاوز الصراع نحو تعايش مُنتِج
ينبغي أن يفضي هذا الحراك الفكري والمجتمعي إلى سردية جديدة لا تقوم على تكرار مظلوميات الماضي، بل على تحويل التنوع إلى قوة ناعمة اقتصادية وثقافية. يمكن لهذه السردية أن تكون رافعة لعقد إقليمي اجتماعي غير مكتوب، تحكمه قواعد الشراكة، والكرامة، واحترام الخصوصيات دون أن تصبح هذه الخصوصيات مصدرًا للابتزاز السياسي أو التمايز الحقوقي.
إن مستقبل بلاد الشام والعراق لن يُبنى فقط عبر تسويات فوقية، بل من خلال جراحة فكرية عميقة، تُجرى في عمق الوعي الجمعي، ويقودها تحالف عابر للهويات، يضع الكرامة الإنسانية والسلام المجتمعي فوق اعتبارات السيطرة والهيمنة.