اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
عن فوز زُهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك
زياد ابحيص
أولاً: يجسد هذا الفوز تصاعد الاستقطاب في المجتمع الأمريكي ما بين كتلتين: البيض الأنجلوساكسون البروتستانت باعتبارهم الأكثرية القومية الحاكمة التي تملك الولايات المتحدة، والتي يشكل ترامب تجسيداً لتطلعاتها عبر عنوان 'لنجعل أميركا عظيمة من جديد (المعروف اختصاراً بماجا)'، والذي لا ينفصل عن فكرة جعلها بيضاء ومسيحية بروتستانتية من جديد...
في مقابل المهاجرين من مختلف الأعراق والخلفيات الذين يريدون إعادة تشكيل القومية الأمريكية باعتبارها دولة جميع المهاجرين، الذين يمتلكون حق المشاركة فيها وتشكيل هويتها تماماً كمؤسسيها البيض. وكما صعد ترامب من نيويورك صعد ممداني من نيويورك أيضاً، وهو ما يؤكد حضور كلا الكتلتين وقدرتها على حشد أنصارها، مع ميل سكاني لزيادة المهاجرين عددياً بما يسمح لهم بالتغلب النهائي مستقبلاً، وهو ما يفسر حرص ترامب وتياره على الحد من الهجرة بالقوة.
ثانياً: كلا الشخصيتين جسدتا تحركاً تغييرياً ضد النخبة السياسية التقليدية في حزبه، فالأول شكل حركة (ماجا) من أطراف الحزب الجمهوري وفرضها على الحزب الذي قبلها لأنها وسيلة حكم وليس لأنه يتبنى مقولاتها، أما زهران ممداني ففاز بترشيح الحزب الديمقراطي رغم ميل نخبته إلى غريمه أندرو كومو، وكان فوزه بترشيح الحزب الديمقراطي أحد عناوين التغيير الذي حققه، وهو ما يشير إلى خط آخر من الصراع الداخلي في كلا المعسكرين –تيار البيض والمهاجرين- ضد النخب التقليدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي.
ثالثاً: في ثنايا هذا الصراع يتداخل الصراع المادي بين الطبقات أيضاً، فترامب يمثل نخبة الصناعات الثقيلة والعقارات والنفط ويحابي رأس المال على حساب العاملين، ويتبنى تشجيع الاسثمار بخفض الضرائب على الأغنياء، مقابل نخبة عمالقة الخدمات من بنوك وتأمين واتصالات التي تصب عادة عند الحزب الديمقراطي وتختلف مع ترامب تكتيكياً، في المقابل يحاول زُهران ممداني تمثيل العمال والمهنيين والحرفيين وخفض تكاليف الحياة وفرض ضرائب تصاعدية تمس الأغنياء أكثر، بل يعتبر أنه لا ينبغي أن يكون هناك لقب 'بليونير' باعتبار مثل هذا الغنى يعبر عن غياب العدالة الاقتصادية.
رابعاً: يأتي زهران من عائلة صاغ الاستعمار وما بعد الاستعمار وعيها ووجودها، فأبوه محمود ممداني من الأقلية الهندية التي جلبها الاستعمار البريطاني إلى أوغندا للعمل في مشاريع البنى التحتية والتجارة، فكان هندياً مسلماً جوجراتياً في بيئة من السود المسيحيين الكاثوليك والأنجليكان بعد الاستعمار والوثنيين قبله، وهي أقلية شهدت سؤال هوية حقيقي بعد استقلال أوغندا في 1963؛ فأصبحت تلك الأقلية غير محسوبة على المستعمِر الذي رحل وغير مشمولة بانسحابه إلى بريطانيا، ولا هي جزء من هوية المجتمع المستعمَر من الأفارقة، وهذا ما جعلهم موزعين ما بين سؤال الهجرة إلى بريطانيا للحاق بالمستعمِر المنسحِب أو محاولة العودة إلى الهند أو البقاء في أوغندا ومحاولة المشاركة في تشكيل هويتها ما بعد الاستعمار.
تحت ضغط هذه الوقائع اتجه محمود ممداني –والد زُهران- لدراسة الأنثروبولوجيا والعلوم السياسية بشغف، وتخصص في دراسات ما بعد الاستعمار وقدم فيها أطروحات مهمة... أما والدته فهي مخرجة أفلام هندية هندوسية هاجرت للولايات المتحدة وشكلت فكرة الفجوة الثقافية بين المهاجر والمجتمع الأصلى عنواناً لاهتمامها، وتعرفت على والده أثناء إعدادها بحثاً لأحد أفلامها.
زُهران هو امتداد ذلك الخط من سؤال الهوية في عالم ما بعد الاستعمار الذي تصرف بالبشر كمادة استعمالية، نقلها وتصرف فيها وفق حاجته ووفق حاجة اقتصاد السوق، لكنها ما تزال تحاول تعرف نفسها إنسانياً، لا كمادة فحسب، بل باعتبارها تملك ديناً وثقافة. وهي تحاول فعل ذلك في الولايات المتحدة –كمركز استعماري- عبر التمسك بأطروحات النيوليبرالية والتنوع والتعدد، ما يجعل هذا التعدد الهوياتي لزًهران بين كونه مسلماً شيعياً هندياً والدته هندوسية، وزوجته مسلمة سنية من دمشق، جزءاً من مؤهلاته باعتباره تجسيداً للتعدد، وتجسيداً للمجتمع المهاجر الذي يتطلع لتكريس التعدد في الولايات المتحدة.
خامساً: موقف زهران من غزة وفلسطين هو تجسيد لرفض فكرة فوقية عرق أو دين، ومركزيته التي تسمح له باضطهاد الآخرين، وتجسيد لرفض خيارات النخبة المهيمنة، وانحيازاتها التقليدية الظالمة القائمة على تشابك من المصالح، ورفضه للتعريف المركزي الغربي للقومية باعتبارها فرض هوية الأكثرية على حساب الأقلية، وهي بذلك تعبر عن رفضه وقاعدته الانتخابية لتعريف القومية الأمريكية باعتبارها قومية البيض على حساب المهاجرين، وإحدى مداخل طرح إعادة تشكيلها باعتبارها قومية الجميع بعيداً عن منطق القتل والإبادة والظلم. هو في ذلك يتقمص الحل الذي يطرحه والده محمود ممداني تجاه قضية فلسطين التي يُنظّر لحلها بتجاوز هوية المستعمِر والمستعمَر إلى هوية جديدة تشمل الجميع عبر نضال سياسي أسوة بجنوب إفريقيا وفق رأيه، وهي أطروحة لها كثير من النقد؛ لكن هذا لا يمنع أن ابنه زُهران يحاول تجسيدها في أمريكا.
في الخلاصة، فوز ممداني يجعله قطباً في صراع هوية متصاعد داخل المجتمع الأمريكي مع المهاجرين في مواجهة مركزية البيض، ويجعله للمفارقة على نفس الصف مع ترامب في مواجهة النخب السياسية التقليدية لصالح قوى تغييرية، وثالثاً يضعه في مواجهة مع مصالح رؤوس الأموال الكبرى لصالح العمال والمهنيين، ويجعله جزءاً من الأزمة العالمية المزمنة التي صنعها الاستعمار الغربي حين هدم البنى والهويات القديمة وفتح أتون صراعات وحروب مستمرة للتحرر ولإعادة بناء هويات قومية جديدة بعد التحرر، دون أن يصل أحد إلى مخرج مستقر من هذا الأتون حتى الآن...
أمام تحديات كهذه فمصير زُهران ممداني ربما يكون بين أن يغتال في عنفٍ سياسي يحفزه هذا الاستقطاب على مختلف خطوط الصراع، أو أن يُفشل مشروعه بائتلاف أصحاب المصالح المقابلة في مواجهته، أو أن يصطدم مشروعه بصعوبات بناء هوية متعددة في دولة تأسست على الإبادة والعبودية والهيمنة لصالح عرق بعينه، أو أن ينجح في تشكيل نموذجٍ جديد يفتح نافذة ما نحو وقائع سياسية جديدة يصعب توقع شكلها من الآن.












































