اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
بلجيكا تستعد لشلل وطني نهاية نوفمبر: قراءة في الأسباب والتداعيات
زياد فرحان المجالي
حين تُعلن النقابات البلجيكية عن ثلاثة أيام من الإضراب المتتالي في نهاية تشرين الثاني، لا يبدو الأمر حدثًا نقابيًا عابرًا بقدر ما هو انعكاس لتحوّل عميق في علاقة الشارع بالدولة. فبلجيكا، الدولة التي اعتادت التوازن بين رفاهية الفرد وانضباط النظام، تدخل اليوم مرحلة جديدة عنوانها الضغط الاجتماعي في مواجهة الجمود السياسي.
القرار بالإضراب الشامل – أيام 24 و25 و26 نوفمبر – لم يأتِ من فراغ. فالنقابات الثلاث الكبرى (FGTB، CSC، CGSLB) أعلنت تعبئتها بعد أشهر من المفاوضات العقيمة مع الحكومة الفيدرالية حول ملفي الأجور والضمان الاجتماعي، إضافة إلى ما تصفه النقابات بـ«تآكل القدرة الشرائية» وتزايد العبء الضريبي على الطبقة الوسطى.
الشرارة الاقتصادية بدأت من قانون فهرسة الأجور الذي يربط الزيادات بمعدل التضخم. ومع ارتفاع الأسعار بعد الحرب في أوكرانيا وتداعيات الأزمة الطاقوية الأوروبية، تراجع الدخل الحقيقي للعمال فيما بقيت الأرباح الرأسمالية في ارتفاع. ومع رفض الحكومة تعديل آلية الفهرسة أو تقديم دعم مباشر للأسر محدودة الدخل، شعرت النقابات بأن سياسة التقشف تتسلل مجددًا بلباس 'الإصلاح المالي”.
لكن خلف هذا المشهد الاقتصادي يكمن اختناق سياسي واضح. فالحكومة الائتلافية، التي تضم الليبراليين والفلامان والاشتراكيين والبيئيين، تبدو عاجزة عن اتخاذ قرار موحّد. كل طرف يحسب حساب الانتخابات المقبلة في 2026، وكل وزير يتحدث بلهجة إقليمه قبل أن يتحدث باسم بلجيكا. ومن هنا، فإن الشلل المتوقع في الشوارع نهاية نوفمبر ليس سوى انعكاسٍ لشللٍ أعمق في غرف القرار.
الإضراب في بلجيكا ليس غريبًا على تقاليد العمل السياسي. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، لعبت النقابات دورًا أساسيًا في تصحيح المسار الاجتماعي، لكن الجديد اليوم هو حدة الخطاب واتساع المشاركة. فالمتوقع أن يشمل الإضراب قطاعات النقل العام، السكك الحديدية، التعليم، الصحة، البلديات، وحتى بعض المؤسسات الخاصة الكبرى. ثلاثة أيام من التوقف الكلي تعني عمليًا تجميد حركة البلاد، وإرسال رسالة مباشرة للحكومة مفادها أن 'الشارع لم يعد صامتًا”.
في بروكسل، تتحدث المصادر الاقتصادية عن خسائر مالية قد تصل إلى مئات ملايين اليوروهات، وعن خطر تعطّل سلاسل الإمداد القصيرة بين الموانئ والمصانع. لكن الأثر الأعمق لن يكون ماليًا فحسب، بل نفسيًا وسياسيًا. فالمجتمع البلجيكي الذي طالما تفاخر بتماسكه الاجتماعي، يعيش اليوم تآكلًا تدريجيًا في الثقة بين المواطن ومؤسساته. استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت أن أكثر من 60٪ من البلجيكيين لا يثقون بالحكومة، وأن نصفهم يعتقد أن النقابات باتت 'المدافع الحقيقي عن المعيشة اليومية”.
في المقابل، تصرّ الحكومة على أن الإضرابات 'تهدد استقرار الدولة وتضعف قدرتها التنافسية”، وأن 'المطالب النقابية غير واقعية في ظل الانكماش الأوروبي”. إلا أن هذا الخطاب لم يعد يُقنع الشارع، خاصة بعد أن كشفت تقارير إعلامية عن ارتفاع رواتب بعض الوزراء ومسؤولي المؤسسات العامة بنسبة تتجاوز 12٪ خلال عام واحد، بينما جُمّد الحد الأدنى للأجور فعليًا بسبب التضخم المتراكم.
اللافت أيضًا أن الإضراب لا يقتصر على العاصمة أو الجنوب الاشتراكي (والونيا)، بل يمتد إلى فلاندر الشمالية التي لطالما عُرفت بتأييدها للسياسات الليبرالية. وهذا يعني أن الاحتقان تجاوز الانقسام اللغوي التقليدي بين الفرانكوفونيين والفلامان، ليصبح غضبًا وطنيًا جامعًا ضد النهج الاقتصادي نفسه.
النقابات البلجيكية تدرك أن هذه اللحظة حاسمة. فهي لا تراهن فقط على انتزاع مطالب مالية، بل تسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن. الإضراب الثلاثي يُراد له أن يكون تحذيرًا مبكرًا قبل انتخابات 2026، بأن تجاهل القاعدة الشعبية سيكلف النخب السياسية ثمنًا غاليًا. وفي هذا السياق، تبرز رمزية الإضراب كـ'جرس إنذار ديمقراطي' أكثر من كونه حركة احتجاجية ظرفية.
أوروبا تتابع بلجيكا بقلق. فالإضرابات العمالية في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا خلال الأشهر الماضية عكست تصاعد التململ من السياسات النيوليبرالية التي فرضها الاتحاد الأوروبي تحت شعار ضبط العجز المالي. وبلجيكا، باعتبارها مقرّ الاتحاد الأوروبي وحاضنة مؤسساته، تُعد اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة أوروبا على التوفيق بين الصرامة المالية والعدالة الاجتماعية. فشل الحكومة البلجيكية في احتواء الإضراب قد يفتح الباب أمام موجة احتجاجات مماثلة في دول أخرى تعتمد نموذجها المالي نفسه.
الأثر الاجتماعي الداخلي لا يقل أهمية. فالإضراب يعيد النقاش حول هوية الدولة البلجيكية الحديثة: هل ما زالت دولة الرفاه التي تضمن المساواة، أم أنها تنزلق تدريجيًا إلى نموذج السوق الحرّ بلا كوابح إنسانية؟ في النقاشات العامة اليوم، يكثر استخدام مصطلح 'Belgique fatiguée” – 'بلجيكا المتعبة” – في وصف بلدٍ يشيخ سكانه وتزداد أعباؤه الاجتماعية، فيما الطبقة السياسية تنشغل بخلافات شكلية.
من جهة أخرى، تحاول الحكومة امتصاص الغضب عبر دعوة النقابات إلى 'حوار اجتماعي موسع”، لكن الاتحاد العمالي العام أعلن أنه لن يشارك في أي حوار قبل تحديد جدول زمني واضح لزيادة الأجور وتعديل قانون العمل. هذا التصلّب المتبادل يُنذر بمواجهة طويلة، وقد يدفع بعض الأحزاب المعارضة إلى استثمار الموقف انتخابيًا، خصوصًا حزب 'العمل البلجيكي” اليساري الذي صعد في استطلاعات الرأي أخيرًا مستفيدًا من خطاب الدفاع عن الفقراء.
اقتصاديًا، تتخوف المؤسسات من تراجع مؤشرات الثقة خلال الربع الأخير من السنة، إذ أن الإضرابات المتكررة تؤثر في قرار المستثمرين وتضعف من صورة بلجيكا كمركز إداري آمن. ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن الضغوط النقابية قد تدفع الحكومة إلى مراجعة سياساتها الاجتماعية بما ينعش الطلب الداخلي ويعيد التوازن الاقتصادي على المدى الطويل.
الملف إذن لا يتعلق فقط بأجورٍ أو ساعات عمل، بل بملامح مرحلةٍ جديدة في أوروبا الوسطى. فحين تُضرب بلجيكا، لا تهتز قطاراتها وحدها، بل يتردد الصدى في بروكسل السياسية، حيث مقر المفوضية الأوروبية، وفي لوكسمبورغ وبرلين وباريس. فالإضراب في قلب الاتحاد الأوروبي يعني ببساطة أن 'المثال الأوروبي” نفسه يحتاج إلى إصلاح.
الإضراب الوطني المرتقب ليس نهاية أزمة، بل بدايتها. وإذا لم تتمكن الحكومة من تحويل هذه الصرخة إلى فرصة حوار حقيقي، فقد تجد نفسها أمام حركة اجتماعية دائمة تتجاوز النقابات وتعيد تعريف السياسة البلجيكية من جديد. ففي بلدٍ يُدار بالتوافق، يكفي أن يصمت العمال ثلاثة أيام… ليصغي العالم بأسره.












































