اخبار الاردن
موقع كل يوم -الوقائع الإخبارية
نشر بتاريخ: ٢٣ أب ٢٠٢٥
الوقائع : وجه وزير التعليم العالي الأسبق، الأستاذ الدكتور وليد المعاني رسالة إلى زملائه الأطباء، حول قضايا الصحة النفسية وأهميتها، واحتياجات المجتمع لها.
وقال المعاني خلال محاضرته التي ألقاها في مؤتمر الطبيبات الرابع، إن فساد النفس أعظم خطرًا من فساد البدن، فالنفس إذا مرضت لا تُبصر الحق ولا تشتاق إليه.
وبين أنّ هناك نقص ملحوظ في عدد الأطباء النفسيين المسجلين في الاردن، فبينما توصي منظمة الصحة العالمية بأن يكون 10 أطباء نفسيين لكل 100 ألف نسمة، ما تزال هذه النسبة عند 1.5 طبيب لكل 100 ألف نسمة.
وأوضح أنّ من المشكلات التي تواجهها الصحة النفسية في الأردن، هو عدم التوزيع المناسب للعيادات والمراكز النفسية العامة في مناطق المملكة المختلفة، فأغلبها متركّزة في العاصمة عمان.
ووفق المعاني، فلا تزال الصحة النفسية معزولة عن النظام الصحي العام في الاردن، وأطباء المراكز الصحية لا يُدرَّبون على الاكتشاف المبكر للاضطرابات النفسية، رغم أن معظم المرضى النفسيين يزورون الطبيب العام أولاً، وليس طبيب الأمراض النفسية.
وعرج المعاني على إحصائيات وزارة الصحة قائلًا، إنّ ما لا يقل عن 20% من السكان يعانون شكلًا من أشكال الاضطرابات النفسية، منها الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، لكن الرقم الصادم ليس في النسبة، بل في أن أقل من 10% فقط منهم يتلقون العلاج.
وتاليًا نص كلمة المعاني كاملة:
من الرؤية إلى الفعل: خطة استراتيجية لدعم الصحة النفسية
الأستاذ الدكتور وليد المعاني*
'الروحُ كالجسد، تحتاج إلى رعاية ودواء، وإذا تُركت، مرضت، وإذا مرضت، أظلمت، وإذا أظلمت، أطفأت النور عن القلب والعقل.'
أيّتها الزميلات والزملاء الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أقف أمامكم اليوم، لا بصفتي طبيبا فحسب، بل بصفتي إنسانا عاينت الألم النفسي في ملامح الأمهات، والطلاب، واللاجئين، والشباب، بل وحتى في زملائنا وزميلاتنا في هذا الحقل الإنساني العظيم، الطب.
حديثي اليوم ليس رقماً يُقرأ، ولا سياسة تُدار من وراء المكاتب، بل هو دعوة واعية لإعادة النظر في جذور الإنسان: في كيانه، في روحه، في تلك المساحة التي لا نراها ولكنها تحكم كل شيء.
موضوع حديثي اليوم هو:
من الرؤية إلى الفعل: خطة استراتيجية لدعم الصحة النفسية'وهو موضوع بالغ الأهمية، لأنه يتعلق بجوهر الإنسان وسلامه الداخلي.
دعونا نبدأ بالسؤال المحوري: لماذا الآن؟ لماذا أصبحت الصحة النفسية قضية ملحّة؟ الإجابة في الواقع بسيطة وعميقة: لأننا في مرحلة انكشاف إنساني غير مسبوق.
في الأردن، وفقًا لوزارة الصحة، يعاني ما لا يقل عن 20% من السكان من شكل من أشكال الاضطرابات النفسية، منها الاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة. لكن الرقم الصادم ليس في النسبة، بل في أن أقل من 10% فقط منهم يتلقون العلاج.
أما في عالمنا العربي فنحن نواجه انفجارًا صامتًا. دولٌ تمرّ بنزاعات، شعوبٌ تحت الحصار، مجتمعات تواجه ضغوطًا اقتصادية خانقة، وشباب في صراع دائم بين التراث والتحديث، بين الحلم والواقع.
وعلى الرغم من كل ما سبق، تُعتبر الصحة النفسية ثانوية، غير ملحة، لا يُخصّص لها من الموارد ما تستحق، ولا من الاهتمام ما يكفي.
قبل أن نرسم خطتنا الاستراتيجية، علينا أن نفهم جذور المشكلة الثقافية.
وهنا نطرح السؤال:
لماذا ما زال المرض النفسي يُعامَل كمحرّم اجتماعي؟ والجواب يكمن في الوصمة؛ وصمة 'الضعف' و 'الجنون' و'قلة الإيمان'. لكن المفارقة أن تراثنا العربي والإسلامي لم يكن كذلك.
قال الإمام الغزالي:
'إن فساد النفس أعظم خطرًا من فساد البدن، فالنفس إذا مرضت لا تُبصر الحق ولا تشتاق إليه.'
والطبيب الرازي، في كتابه الحاوي في الطب، خصّص فصولاً كاملة لما نسميه اليوم 'الصحة النفسية'، وتحدّث عن أعراض الاكتئاب، والوساوس، والحزن المرضي، بل ووصفها بأنها 'أمراض يجب علاجها كأمراض البدن تمامًا'.
فكيف انقلبنا من تراث عقلاني، إنساني، إلى مجتمعات تُخيف أبناءها من الذهاب إلى الطبيب النفسي، وتُعيب على من يطلب الدعم؟
دعونا نتحدث عن واقع الصحة النفسية في الأردن كمثال على واقعنا العربي وسأورد نقاطا أربعا يمكن اعتبارها أساس هذا الواقع المؤلم.
أولا، هناك نقص في الموارد البشرية في الأردن، فعدد الأطباء النفسيين المسجلين أقل من 1.5 طبيب لكل 100,000 نسمة، بينما توصي منظمة الصحة العالمية بما لا يقل عن 10 أطباء لكل 100,000 نسمة.
ثانيا، عدم التوزيع المناسب للعيادات والمراكز النفسية العامة في مناطق المملكة المختلفة، فأغلبها متركّزة في العاصمة عمان.
ثالثا، عدم ادماج الصحة النفسية ضمن الرعاية الأولية فلا تزال الصحة النفسية معزولة عن النظام الصحي العام. فأطباء المراكز الصحية لا يُدرَّبون على الاكتشاف المبكر للاضطرابات النفسية، رغم أن معظم المرضى النفسيين يزورون الطبيب العام أولاً، وليس طبيب الأمراض النفسية.
رابعا، ضعف التوعية وغياب حملات وطنية مستمرة لتثقيف الناس حول الصحة النفسية، فالإعلام إما أن يهمّش الموضوع أو يُقدّمه بشكل درامي مشوّه.
بعد هذا التشخيص، يمكن الانتقال لما يمكن أن يشكل محاولة للبدء في حل هذه المشكلة المستعصية. وهنا أقدّم لكم خطة استراتيجية عملية من خمس ركائز متكاملة، تنطلق من رؤية واضحة وتتحول إلى فعل فعّال:
الركيزة الأولى: التوعية والتثقيف وفي هذه نقاط ثلاث؛
إدماج مفاهيم الذكاء العاطفي والدعم النفسي في مناهج التعليم العام.
إعداد برامج تثقيفية موجهة للأهل، لتعليمهم كيف يميّزون بين الحزن الطبيعي والاضطراب النفسي المرضي.
إطلاق حملات وطنية لتغيير الصورة النمطية عن المرض النفسي، باستخدام الإعلام، والمساجد، والمدارس، والجامعات.
الركيزة الثانية: دمج الصحة النفسية في الرعاية الأولية ويمكن عمل ذلك من خلال محورين أولهما؛ تدريب الكوادر الطبية في المراكز الصحية على التشخيص المبكر للقلق، الاكتئاب، واضطرابات النوم، وثانيهما توفير العلاج النفسي الدوائي وغير الدوائي في جميع مرافق الرعاية الأساسية، لتقليل الضغط على المستشفيات النفسية.
الركيزة الثالثة: بناء الكوادر وتطوير المهن النفسية وذلك عن طريق زيادة عدد مقاعد التخصص النفسي في الجامعات الأردنية والعربي، ودعم برامج الماجستير والدكتوراه في علم النفس الإكلينيكي، والإرشاد النفسي، وكذلك منح حوافز للأطباء النفسيين للعمل في المناطق الريفية والنائية.
الركيزة الرابعة: تعتمد أساسا التشريعات والدعم القانوني للسير في المشروع وذلك عن طريق إقرار قانون وطني للصحة النفسية، يحمي حقوق المرضى، ويمنع التمييز ضدهم، وكذلك العمل على تأسيس لجان رقابة مستقلة على مراكز العلاج النفسي، لتأكيد ضمان احترام كرامة الإنسان وأخلاقيات المهنة، كما يجب أن يكون هناك تشريع يتضمن تجريم الإساءة الإعلامية للمصابين باضطرابات نفسية، وتجريم الترويج للمعلومات المغلوطة.
الركيزة الخامسة: دعم البحث العلمي والإبداع المحلي عن طريق تمويل أبحاث عربية تُعنى بالسياق الثقافي والاجتماعي للصحة النفسية، وتشجيع الابتكار في العلاج في مجالات العلاج بالفن، والعلاج السلوكي، وبالتكنولوجيا (الذكاء الاصطناعي، التطبيقات الذكية).
الزميلات والزملاء
اسمحوا لي أن أوجه حديثي للطبيبات العربيات؛ لا يكفي أن تكنّ جزءًا من المنظومة، عليكن أن تكنّ قائدات التغيير فيها، فأنتن الأقرب إلى النساء، والأطفال، والمراهقين وهي الفئات الأكثر هشاشة نفسية. بإمكانكن قيادة مبادرات مجتمعية، وتشكيل مجموعات دعم، وافتتاح مراكز توعية متنقلة. أنتن من تستطعن القول بصوت مرتفع: الصحة النفسية ليست رفاهية، بل ضرورة.
تقول الأديبة غادة السمان 'أقسى ما في الوحدة أن ترى العالمَ كاملاً ولا أحدَ يراك.'
ونحن هنا لنقول لكل نفسٍ مكلومة: نحن نراكِ، ونفهمكِ، ولن نترككِ وحدكِ.
الزميلات والزملاء،
الصحة النفسية ليست مشروعًا مؤقتًا، بل هي أساس بناء الإنسان العربي الجديد، إنسانٍ سوي، متوازن، قادر على الحب، العطاء، الإبداع، والمواجهة.
دعونا نبدأ، لا بشعارات، بل بخطوات عملية. دعونا نكون الجسر بين المريض والنظام، بين المعاناة والأمل. دعونا ننتقل، معًا، من الرؤية إلى الفعل.
وختامًا أستشهد بقول الشاعر إيليا أبو ماضي:
'كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً.'
لكنني أضيف:
'كن سليمًا نفسيًا... ترَ الحياة أوسع وأرحم.'
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* أستاذ شرف في قسم جراحة الدماغ والأعصاب في كلية الطب في الجامعة الأردنية
**نص المحاضرة التي القيت اليوم في مؤتمر الطبيبات العربيات الرابع