اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٨ تشرين الأول ٢٠٢٥
العرش والشّارِع : تلاقي الوعي والمسؤولية في خطاب الملك #عاجل
كتب أزهر عبدالله طوالبه.
في خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك عبدالله الثاني في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة العشرين، تتجلّى ملامح مقاربةٍ ملكيةٍ ناضجة تُوازن بين التقييم الموضوعي للواقع واستشراف المسار الإصلاحي المُقبل. الخطاب لم يكن إنشائيًّا أو احتفاليًّا كما جرت العادة في المناسبات الدستورية المُماثِلة، بل أقرب إلى بيانٍ سياسيٍّ شامل يحدّد طبيعة التحدّيات ويؤطّر مسؤولية الدولة -بشقّيها الرسمي والمجتمعي- في مواجهتها، على قاعدة المشاركة والمساءلة، لا الاتّكالية أو التلقّي.
من حيث البنية الخطابية، حافظ جلالته على ثنائيةٍ متوازنة بين لغة الدولة ولغة الإنسان. فاستدعاءه لعباراتٍ مثل «نعم، يقلق الملك، لكنه لا يخاف إلا الله، ولا يهاب شيئًا وفي ظهره أردني»، لا يُقرأ بوصفه استطرادًا وجدانيًّا، بل كأداةٍ سياسية لتكريس شرعية القرب العاطفي بين القيادة والشعب. فالقلق هنا ليس عاطفة شخصية، بل توصيف لحالة الدولة في محيطٍ متقلّب، يعادِل فيها الوعيُ السياسيُّ الانفعالَ الميدانيّ. أراد الملك أن يضع نفسه في صميم القلق العام، لا خارجه، مؤكّدًا أنّ الحكم لا يعني الانفصال عن الواقع، بل الوجود في قلبه وتحويله إلى طاقة تحفّز العمل لا الاستكانة.
على مستوى المضمون، جاء الخطاب مُنضبطًا في مفرداته، لكنه مُحمّلٌ بإشاراتٍ عميقة. ففي الشقّ الداخلي، حرص جلالته على التأكيد أنَّ الإصلاح لم يعد مشروعًا مرحليًّا بل مسارًا مستمرًّا، يتطلّب تراكُم الجهود، لا إعادة البدء في كلّ دورة سياسية. حين تحدّث عن أنّ 'الطريق أمامنا طويل ويتطلب عملًا منقطع النظير'، كان يوجّه نقدًا ضمنيًّا لإيقاع التنفيذ البطيء الذي تعانيه الأجهزة البيروقراطية، ويطالب بنقلةٍ من 'التخطيط' إلى 'المنجز المحسوس'. كذلك، فإنّ حديثه عن 'العمل الحزبي النيابي المكرّس لخدمة الوطن لا شيء غير الوطن'، يُعدّ بمثابة إعادة ضبطٍ لمفهوم الممارسة السياسية، بحيث تكون الأحزاب منصّاتٍ للبرامج، لا واجهاتٍ للولاءات أو امتداداتٍ لمصالح ضيقة.
في المحور الاقتصادي، استخدم الملك لغة 'المسؤول التنفيذي الأعلى'، لا لغة الراعي الرمزي. فقد أشار إلى ضرورة مواصلة تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي، ومواصلة تحديث القطاع العام والتعليم والصحة والنقل، بوصفها منظومة واحدة لا يمكن فصل عناصرها. اللافت هنا أنّه لم يتحدث بلغة 'المطالب'، بل بلغة 'المهام'، بما يعني أنّ المطلوب لم يعد البحث عن الحلول، بل تسريع تطبيق الحلول الموجودة أصلاً. هذه المقاربة تُحيلنا إلى ما يمكن تسميته 'الإدارة بالنتائج'، حيث يُقاس النجاح بمؤشراتٍ ملموسة تنعكس على المواطن، لا بخططٍ مؤطرة على الورق.
وفي المحور السياسي–الإقليمي، حافظ الخطاب على ثوابت الأردن الكبرى، لكن مع نبرةٍ أكثر رسوخًا في رفض الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وتجديد الالتزام الثابت تجاه غزة والقدس. حين قال جلالته إنّ الأردن 'سيبقى إلى جانب أهل غزة، وقفة الأخ مع أخيه'، فهو يعبّر عن موقفٍ مركّب: إنسانيّ في ظاهره، استراتيجيّ في جوهره، إذ يُكرّس الدور الأردني باعتباره ضمير القضيّة الفلسطينيّة وعمقها العربي الأخير. أمّا تأكيده على الوصاية الهاشمية، فهو إعادة ترسيخٍ لموقع الأردن في توازنات الصراع على القدس، في وجه محاولات الإقصاء أو التهميش التي تشهدها المنطقة.
وفي سياقِ قراءة السياسة الداخلية من منظورٍ مؤسساتي، فإنّ دعوة الملك إلى 'تعاون السلطات' تعكس إدراكًا بأنّ التوازن بين السلطات لا يعني التصادم، بل التكامل في الأدوار. فهي رسالة مزدوجة: إلى الحكومة بأن تتقدّم من موقع الفعل لا التبرير، وإلى مجلس النواب بأن يمارس دوره الرقابي والتشريعي بجدّية لا بالشكلية، وإلى الشعب بأن يُسهم في الإصلاح بالوعي والمسؤولية، لا بالتذمّر أو الانكفاء.
أما البُعد الدلالي في ختام الخطاب، حين قال جلالته: 'خدمة وطننا واجب مقدّس علينا جميعًا، فلا خوف على الأردن القوي بشعبه ومؤسساته'، فيمكن قراءته كتجديدٍ لمبدأ الشرعية المتبادلة: الدولة تستمدّ قوتها من الشعب، والشعب يضمن استمراريته عبر مؤسساتٍ قوية. إنها صياغة عصرية للعقد الاجتماعي، قوامها الثقة والمسؤولية المشتركة.
بقراءة تحليلية شاملة، يمكن القول إن خطاب العرش 2025 ليس مجرد افتتاحٍ دستوري للدورة البرلمانية، بل بيان وطني للمرحلة الانتقالية التي يعيشها الأردن بين واقعٍ مأزوم وإمكانٍ إصلاحيّ واعد. فيه تأكيد على أنّ الدولة لا يمكن أن تستمرّ على نسقها التقليدي في ظلّ التحوّلات الإقليمية والاقتصادية المتسارعة، وأنّ رأس الدولة يعي ذلك ويدفع باتجاه 'إعادة هندسة العلاقة بين المواطن والدولة' على أسس الكفاءة، والمساءلة، والانفتاح السياسي المحسوب.
لقد أراد الملك من هذا الخطاب أن يضع الأردنيين أمام مسؤوليتهم الجماعية: إمّا أن يكون الإصلاح مسار دولةٍ بأكملها، أو يظلّ شعارًا مكرورًا تُثقله الأزمات وتبتلعه البيروقراطية. ومن هنا، يصبح الخطاب وثيقة توجيه سياسي تتجاوز اللحظة البرلمانية إلى الرؤية الوطنية الكبرى — رؤية تستند إلى قناعة مفادها أن الأردن، رغم ما يحيط به من اضطراب إقليمي وضغط اقتصادي، لا يزال يملك ما هو أثمن من الموارد: وعيه بذاته وإيمانه بعدالة قضيته واستقرار نظامه السياسي.












































