اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٥ تشرين الثاني ٢٠٢٥
فشل مساري غزة وسوريا... بوابة إعادة تشكيل الشرق الأوسط
تواجه المنطقة العربية مرحلة مفصلية، يتقاطع فيها مسارين حاسمين يحملان ملامح مستقبل المنطقة ويحددان مستقبل الإقليم السياسي والأمني: مسار وقف الحرب على غزة، ومسار الانتقال السياسي في سوريا بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع. كلا المسارين، رغم التباين في البيئة الجغرافية والسياسية لكل مسار، إلا أنهما يشكلان معاً ركيزتين لاستقرار - المشرق العربي - أو لانفجاره مجدداً نحو فوضى عارمة ممتدة لا تُعرف نهايتها أو نتائجها.
وبكل تأكيد فإن إفشال إتفاق وقف الحرب على غزة لا يعني فقط استمرار المأساة الإنسانية وتواصل شلال الدم الفلسطيني، بل يكرّس واقعاً جديداً يطمح إليه اليمين الإسرائيلي المتطرف، من حيث إفراغ القطاع من سكانه، وإضعاف السلطة الفلسطينية، وفرض معادلة أمنية تجعل من كيان الإحتلال الإسرائيلي المدعوم امريكياً وغربياً القوة الوحيدة القادرة على رسم خرائط الأمن والسياسة في المنطقة ككل، علاوة على ذلك فإن فشل مسار وقف الحرب يحقق غاية استراتيجية للكيان الإسرائيلي تتمثل في إطالة أمد الصراع، وتهيئة الظروف الميدانية والسياسية لضم الضفة الغربية فعلياً تحت ذرائع 'الأمن القومي الإسرائيلي'، مما يهدد بتصفية القضية الفلسطينية سياسياً وجغرافياً، وتحويلها من قضية تحرر وطني إلى ملف إنساني محكوم بالمساعدات الدولية، مع ما يترتب على ذلك من احتمالية تصدير الأزمة إلى دول الجوار عبر موجات النزوح، أو تنامي التوترات الاجتماعية والسياسية في محيط فلسطين.
في المقابل، تمثل المرحلة الانتقالية في سوريا بقيادة الرئيس السوري أحمد الشرع اختباراً حقيقياً لمدى قدرة الإقليم والمجتمع الدولي على دعم انتقال سلمي يعيد للدولة السورية وحدتها ومكانتها. فهذه المرحلة، إذا ما قُدّر لها النجاح، قد تفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة السورية على أسس مؤسسية ووطنية تضمن وحدة التراب السوري واستقلال قراره السياسي، أما إفشال هذا المسار سواء عبر تدخلات خارجية أو صراعات داخلية يعني عودة الصراع إلى المربع الأول، وتكريس الانقسام الجغرافي والطائفي والإثني، ويفتح الباب أمام مشاريع التقسيم التي طالما حلمت بها قوى إقليمية ودولية، كتلك المشاريع التي كانت كامنة منذ بدايات الثورة السورية عام 2011، بهدف تفكيك المنطقة وتحويلها إلى كيانات هشة يسهل التحكم بها.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال انعكاسات فشل هذين المسارين على منطقة الخليج العربي، التي تمثل اليوم الركيزة الاقتصادية الأهم في النظام العربي. فاستمرار حالة عدم الاستقرار في المشرق العربي سيؤدي إلى تزايد الضغوط الأمنية على الخليج، سواء من خلال تمدد النفوذ الإيراني في مناطق الفراغ، أو من خلال تنامي المخاطر المرتبطة بالملاحة الدولية وإمدادات الطاقة في ظل غياب توازن إقليمي مستقر؛ كما أن فشل وقف الحرب في غزة وتعثر المرحلة الانتقالية في سوريا قد يضع دول الخليج أمام معادلة معقدة بين الحفاظ على مصالحها الاقتصادية وعلاقاتها الدولية من جهة، ودعم القضايا العربية المركزية من جهة أخرى، الأمر الذي يفرض على دول الخليج إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية والدبلوماسية ضمن بيئة إقليمية متقلبة وسريعة التغير.
ومن المؤكد أن فشل أي مسار أو المسارين معاً سيقود إلى واقع إقليمي جديد يتقدم فيه كيان الإحتلال الإسرائيلي كقوة مهيمنة على حدود مضطربة، وتستثمر في هشاشة الجوار لتوسيع نفوذها الاقتصادي والأمني، تحت غطاء 'اتفاقيات التطبيع الموسعة'، بحكم القوة والأمر الواقع، وبما يعيد إنتاج مفهوم 'الشرق الأوسط الجديد' وفق مقاربة إسرائيلية – أمريكية تستند إلى التطبيع الاقتصادي والأمني بدل الحلول السياسية، كما سيعني ذلك تحييد أي مشروع عربي جامع، وتحويل المنطقة إلى رقعة صراع مفتوح بين قوى كبرى تتنافس على الموارد والنفوذ، بمعنى (إيران، تركيا، كيان الإحتلال الإسرائيلي) وسط تراجع نسبي للدور العربي الجماعي. ويُتوقع أن يشهد الإقليم – في حال تحقق هذا السيناريو – تحولًا في البنية الجغرافية السياسية، من دول مركزية موحدة إلى كيانات شبه مستقلة متنازعة على الهوية والسيادة، بما يشكل بيئة خصبة لتكريس التدخلات الخارجية واستدامة الصراعات.
من منظور نظرية العلاقات الدولية، يمكن تفسير هذا المشهد ضمن مفهوم 'الفراغ الاستراتيجي' الذي ينشأ حين تفشل الدول الإقليمية في إنتاج منظومة توازن قوى ذاتية، فتتدخل القوى الكبرى لملء الفراغ وفق مصالحها الخاصة. وفي الحالة الراهنة، فإن تعثر وقف الحرب على غزة وتعثر الانتقال السياسي في سوريا يعمّقان هذا الفراغ، ويفتحان المجال أمام الكيان المحتل ليكون الطرف الأكثر استفادة من اختلال المعادلة.
إن المسؤولية التاريخية اليوم تقع على عاتق العواصم العربية الكبرى، التي يُنتظر منها أن تدرك أن استقرار سوريا وفلسطين ليس شأناً محلياً أثره محدود، بل هو صمام أمان للأمن القومي العربي وللأمن الإقليمي على حد سواء. فالتوازن في الشرق الأوسط لن يتحقق عبر صفقات آنية، بل عبر معالجة جذرية تعيد الاعتبار للسيادة، والعدالة، والكرامة، كقيم أساسية لأي تسوية سياسية حقيقية.
ختاماً، يمكن القول إن إنقاذ غزة ومنح سوريا فرصة انتقال حقيقي ليسا مجرد استحقاقين وطنيين، بل معركتان وجوديتان تحددان شكل المنطقة لعقود قادمة: إما شرق أوسط مستقر تحكمه الدول، أو شرق أوسط تتقاسمه المشاريع والميليشيات والمصالح العابرة للحدود، وبشكل يُعيد تشكيل الخريطة السياسية وفق منطق القوة لا الشرعية.












































