اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٢١ تموز ٢٠٢٥
في لحظة دقيقة من عمر الاقتصاد الأردني، تتجاوز المديونية العامة 114% من الناتج المحلي، وتلامس مستويات قياسية تربك قدرة الدولة على التخطيط طويل الأمد. وتتوالى التحذيرات من المؤسسات الدولية، لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في الأرقام فقط، بل في الذهنية التي أنتجتها، واستمرت في تغذيتها لسنوات. المديونية لم تكن يومًا معزولة عن الخيارات السياسية والاقتصادية، بل هي نتيجة طبيعية لتغليب الاستهلاك على الإنتاج، والإنفاق الجاري على الاستثمار، والحلول السريعة على الإصلاح الجذري.
قد نغري أنفسنا بالتفكير في خفض المديونية عبر برامج تقشفية أو إعادة جدولة الديون أو البحث عن منح خارجية. لكن هذه الوسائل، وإن كانت مفيدة على المدى القصير، لا تمسّ جوهر الإشكال. فالمطلوب ليس فقط أداة مالية، بل إعادة بناء ثقافة مالية وطنية قائمة على الكفاءة والشفافية والواقعية. هنا تبرز أهمية استعارة نماذج تحفيزية كالتي طوّرها اليابانيون بعد الحرب، وأبرزها 'كايزن'، الذي يقوم على مبدأ التحسين التدريجي، لا الحلول الانقلابية. ما نحتاجه ليس قفزات مبهرة، بل خطوات محسوبة، يومية، متراكمة.
حين نطبّق هذا المفهوم على المديونية، يتغير سؤالنا من: 'كيف نخفض الدين؟' إلى: 'لماذا وصلنا إليه؟'، ثم: 'ما الذي يمنعنا من وقفه عند هذا الحد؟'. هذا التحول في التفكير هو الخطوة الأولى. فالمديونية لم تكن قرارًا محاسبيًا بحتًا، بل نتيجة لمنظومة خيارات تم اتخاذها تحت ضغط اللحظة، دون تقييم لاحق لجدواها. من هنا علينا أن نُراجع طبيعة الموازنات التي أُعدّت، وأن نتساءل عن بنية الإنفاق العام، عن دور المؤسسات المستقلة، عن الجدوى الاقتصادية للمشاريع الممولة بالقروض، وعن كفاءة التحصيل الضريبي، لا كمجرد قيمة رقمية، بل كمؤشر على العلاقة بين الدولة والمواطن.
ليس خافيًا أن جزءًا كبيرًا من الدين تم إنفاقه على نفقات جارية لا تخلق قيمة مستدامة. والخلل لا يكمن فقط في هذا الإنفاق، بل في غياب أدوات التقييم الدوري، والتعديل المرحلي، والتغذية الراجعة. فلسفة كايزن ترفض هذا الجمود، وتدعو إلى آلية حية تتحرك مع المتغيرات وتستجيب لها. فإذا استمررنا في إعداد الموازنات بذات المنهجية، وتكرار ذات الإجراءات، دون مساءلة أو مراجعة، فإن أي حل سيكون هشًا، وأي انخفاض في الدين سيكون مؤقتًا.
ما يعمّق المشكلة أكثر هو مركزية القرار المالي. فغالبًا ما تُخطط السياسات من الأعلى، وتُنفذ من دون إشراك حقيقي للأطراف. لكن إذا أردنا إصلاحًا هيكليًا للمالية العامة، فيجب أن نُعيد تعريف مفهوم الإيرادات والنفقات على مستوى المحافظات والبلديات، وأن نتيح لها مرونة في تحفيز الاستثمارات، وتخفيض التكاليف التشغيلية، وتوليد الدخل. لا يمكن أن تبقى التنمية مرهونة بالعاصمة وحدها، ولا أن تُفصل السياسة المالية عن الجغرافيا الاجتماعية للبلد.
ثمّة ما هو أخطر من حجم المديونية: أن يفقد المواطن الثقة في إمكانية تخفيضها. فحين يشعر الفرد أن الضرائب تذهب إلى هدر، وأن الاقتراض يُصرف دون رقابة، وأنه مطالب بالدفع بينما تُعفى غيره جهات قوية أو محمية، تنكسر العلاقة الأخلاقية بين الدولة والمواطن. لذلك فإن أولى خطوات الإصلاح أن نعيد الشفافية إلى المشهد. أن نكشف علنًا أين صُرف الدين، وما المشاريع التي نُفذت، ومن استفاد، وكم خلّفت من فرص أو خسائر. لا يمكن خفض الدين دون كشف حساب شامل وصريح.
إن التصحيح لا يبدأ فقط من تعديل القوانين أو توقيع اتفاقيات جديدة مع المقرضين، بل من عقلية ترى في المواطن شريكًا لا مجرد ممول، وفي المؤسسات أدوات خدمة لا مراكز نفوذ. يجب أن تتغير وظيفة الدولة من التوزيع إلى التحفيز، ومن الحماية إلى التمكين. فكلما زاد اعتماد الناس على الدولة، ازداد اعتماد الدولة على الاقتراض. أما حين يتحرر الاقتصاد من عبء الريع، وتُمنح الفرصة للإنتاج المحلي، وتُحمى المؤسسات من التغوّل، فإن الدولة نفسها ستجد أن خياراتها توسّعت، وأن حاجتها للاقتراض تقلّصت.
لهذا، علينا أن نُعيد تعريف دور السياسات المالية في الأردن: هل هي مجرد أدوات لضبط العجز؟ أم أدوات لتوجيه التنمية؟ هل نضع الموازنة لنملأ الفراغ المالي؟ أم لنرسم خريطة اقتصادية جديدة؟ نحن بحاجة إلى عقل مالي جديد، يستبدل منطق 'نقترض لنغطي' بمنطق 'نُنتج لنستغني'. وهذا لا يحدث في عام أو اثنين، بل عبر مسار تراكمي متواصل، يبدأ من مراجعة كل بند إنفاق، كل إعفاء ضريبي، كل قرض، كل وظيفة.
لن ننجح في خفض المديونية إن استمررنا نُديرها بالأدوات القديمة. لكننا نستطيع، إذا غيّرنا طريقة تفكيرنا قبل أن نغيّر أدواتنا، أن نحول هذه الأزمة إلى بداية إصلاح حقيقي. وكما علّمتنا تجارب الأمم الناهضة: الإصلاح لا يبدأ من أرقام الموازنات، بل من طريقة النظر إليها.