اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
بين تنازلات اليمين الإسرائيلي وثبات حماس: من الحرب إلى معركة الغذاء والدواء #عاجل
تحليل خاص – بقلم: زياد فرحان المجالي
في الشرق الأوسط، لا تُكتب نهايات الحروب بالمدافع، بل بالشاحنات التي تحمل الدواء والغذاء.
فحين تتراجع أصوات الطائرات وتبدأ القوافل بالتحرك نحو غزة، يبدأ فصلٌ جديد من الصراع — صراع أكثر عمقًا من القتال نفسه: من يملك حق إدخال الغذاء، ومن يملك سلطة الشفاء.
اليوم، بينما يستعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإعلان 'الاتفاق النهائي” بشأن حرب غزة، تتحول المفاوضات الجارية في شرم الشيخ إلى مختبرٍ سياسيّ تختبر فيه القوى المتصارعة مفاهيم النصر والهزيمة من جديد.
لقد أدرك الجميع أن الحرب العسكرية انتهت، لكن حرب الإرادة والسيادة لم تنتهِ بعد.
حماس تدخل المفاوضات بثقة المنتصر الصامد
لم تدخل حركة حماس إلى مفاوضات شرم الشيخ كما أراد خصومها: منهكة أو منكسرة.
بل دخلت من موقع الندية، حاملة أوراق قوةٍ سياسية وإنسانية كفيلة بقلب ميزان التفاوض.
فالحركة التي واجهت واحدة من أعنف الحملات العسكرية الإسرائيلية منذ 1948، خرجت بقدرة ميدانية لم تُهزم، وبصورة شعبية تجاوزت حدود غزة إلى عمق العالم العربي والإسلامي.
تصرّ حماس على ضمانات مكتوبة تمنع إسرائيل من العودة للقتال، وتطالب بآليات مراقبة دولية حقيقية لإدخال الغذاء والدواء، لا مجرد 'تصاريح مرور” من الاحتلال.
هذا التحول من منطق 'الهدنة” إلى منطق 'الالتزام الدولي” يعكس نضوجًا سياسيًا غير مسبوق في خطاب الحركة.
فهي اليوم تتحدث بلغة القانون الإنساني والدبلوماسية الواقعية، بعدما أثبتت أن القوة الميدانية وحدها لا تكفي لكسر الحصار.
في الوقت ذاته، حافظت الحركة على خطابها المقاوم، مؤكدة أن أي اتفاق لا يضمن حرية الإنسان الفلسطيني لن يكون سوى استراحة محارب.
هكذا تحوّل موقفها من 'المحاصَر الذي يطلب هدنة” إلى المفاوض الذي يضع شروط الحياة.
اليمين الإسرائيلي بين تناقض الخطاب وواقع الانكسار
على الجانب الآخر، يواجه اليمين الإسرائيلي مأزقًا غير مسبوق.
فبعد عامين من الحرب، لم تحقق إسرائيل لا حسمًا عسكريًا ولا استقرارًا سياسيًا.
نتنياهو الذي وعد شعبه بإنهاء حماس، وجد نفسه مضطرًا إلى التفاوض معها عبر وسطاء، وإلى تقديم تنازلات تُمزّق سرديته اليمينية القائمة على 'الأمن أولًا”.
اليمين الحاكم يعيش انقسامًا داخليًا عميقًا: بين جناحٍ يدعو لمواصلة الحرب حتى القضاء الكامل على المقاومة، وجناحٍ آخر يحذّر من كارثة استراتيجية إذا استمرت العمليات دون أفق.
هذا الانقسام جعل إسرائيل تفاوض تحت ضغطٍ ثلاثيّ: ضغط الشارع، وضغط الجيش، وضغط الحلفاء الغربيين الذين تعبوا من تبرير الجرائم الإنسانية في غزة.
المفارقة أن نتنياهو الذي شيّد زعامته على خطاب 'الردع” بات يفاوض لإعادة جثث القتلى ووقف إطلاق النار، في مشهدٍ أقرب إلى الاعتراف الضمني بأن مشروع 'تدمير حماس” انتهى قبل أن يبدأ.
واشنطن في سباق الزمن… وترامب يبحث عن صورة
بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليست هذه المفاوضات قضية شرق أوسط بقدر ما هي فرصة انتخابية ذهبية.
منذ أسابيع، تتحدث وسائل الإعلام الأميركية عن 'خطة ترامب للسلام” وكأنها مشروع شخصي لإعادة رسم صورته كرجلٍ يصنع الاتفاقات التاريخية.
لكن ما وراء الخطاب العاطفي هو سباقٌ مع الزمن: فترامب يريد إنجازًا خارجيًا قبل أن تتعمّق أزماته الداخلية، ويريد إعلان 'النصر الدبلوماسي” من القاهرة لا من واشنطن.
وزير خارجيته ماركو روبيو يدير الملف بدقة انتخابية، لا استراتيجية.
فكل خطوة محسوبة على وقع صناديق الاقتراع، وكل كلمة تُصاغ لتُرضي اليمين المسيحي في الداخل الأميركي أكثر من رضا الأطراف المتفاوضة.
وهكذا تحوّلت المفاوضات إلى مسرحٍ متعدد الأدوار: واشنطن تسعى لصورة، وتل أبيب تسعى للنجاة، والدوحة تبحث عن ضمان، والقاهرة عن توازن.
أوروبا تدخل المشهد من البوابة الفرنسية
القمة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس أربكت إسرائيل.
فمحاولة باريس إحياء فكرة 'ما بعد الحرب في غزة” فُسرت في تل أبيب كاختراقٍ دبلوماسي يُضعف خطة ترامب.
الهجوم الذي شنه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر على فرنسا كشف حجم القلق من انزياحٍ أوروبيّ عن الرؤية الأميركية – الإسرائيلية الموحدة.
فحين تتحدث أوروبا عن 'إعادة الإعمار” و'الضمانات الإنسانية”، تراها إسرائيل تهديدًا مباشرًا لنفوذها.
أما حماس، فترى في الانفتاح الأوروبي فرصةً لفك العزلة السياسية التي فُرضت عليها منذ 2007.
وبين الاثنين، تُدرك العواصم العربية أن الانقسام الغربي هو أفضل ما يمكن أن يخدم القضية الفلسطينية في هذه اللحظة.
من ساحة الحرب إلى ساحة الغذاء والدواء
حين تبدأ الشاحنات بالدخول إلى غزة، تكون المفاوضات قد بلغت اختبارها الحقيقي.
ففي الشرق الأوسط، إدخال الغذاء والدواء أصعب من وقف النار، لأن الأمر يتعلق بالسيادة لا بالمساعدات.
تمسكت حماس بأن يكون دخول القوافل تحت إشرافٍ دولي لا إسرائيلي، معتبرة أن 'الكرامة لا تُقاس بالكيلوجرامات بل بالاستقلالية”.
في المقابل، حاولت إسرائيل أن تفرض ما تسميه 'التحكم الذكي” في المعابر — أي مراقبة كل شاحنة ووجهتها وطاقمها.
وهذا الشرط، وإن بدا إداريًا، يهدف إلى إبقاء الحصار قائمًا بوجهٍ إنسانيّ.
الدور المصري كان حاسمًا هنا؛ فالقاهرة شددت على ضرورة أن يكون معبر رفح قناة إنسانية مفتوحة تحت إدارة مشتركة، لا خاضعة لرقابة الاحتلال.
أما واشنطن، فحاولت تحويل الإغاثة إلى 'أداة نفوذ”، عبر برامج تمويل مشروطة تضمن إشرافًا أميركيًا على المساعدات.
وهكذا تحوّلت معركة الغذاء والدواء إلى المعركة السياسية الأكثر حساسية بعد الهدنة.
فمن يملك حق الإشراف على الشريان الإنساني لغزة، سيملك لاحقًا مفاتيح مستقبلها السياسي والاقتصادي.
مصر وقطر وتركيا… مثلث الوساطة الجديد
برزت في هذه الجولة ثلاث عواصم عربية وإسلامية أعادت رسم مشهد الوساطة:
مصر أعادت تثبيت موقعها بوصفها الضامن الأمني والوسيط التقليدي.
قطر انتقلت من الوساطة اللفظية إلى الضمان المكتوب، مطالبة بتعهدات دولية رسمية.
تركيا لعبت دور المستشار الفني، مقترحة حلولًا تقنية لمشكلة الجثامين والأسرى.
هذا التوزيع المتكامل للأدوار منح العرب حضورًا فعّالًا في مفاوضاتٍ كانت حتى الأمس حكرًا على واشنطن وتل أبيب.
ولأول مرة منذ اتفاق أوسلو، تجد إسرائيل نفسها أمام وساطة عربية متماسكة ومتعددة الأجنحة، لا مجرّد قناة اتصال.
مكاسب حماس وخسائرها
كسبت حماس الاعتراف السياسي قبل أن تكسب أي بندٍ مكتوب في الاتفاق.
فمن كانت تُوصف بالإرهابية أصبحت طرفًا رسميًا في المفاوضات التي يديرها البيت الأبيض، ومن كانت تُحاصر أصبحت شريكًا في تحديد ملامح اليوم التالي للحرب.
أما مكاسبها الميدانية، فهي في الحفاظ على بنيتها العسكرية، واستمرار حضورها السياسي في غزة رغم كل ما جرى.
لكن خسائرها الإنسانية والاقتصادية هائلة: آلاف الشهداء، مئات الآلاف من النازحين، وبنية تحتية مدمرة.
ومع ذلك، تحوّلت هذه التضحيات إلى قوة رمزية أعادت تعريف معنى الصمود في الوعي الجمعي العربي.
لقد انتقلت حماس من مرحلة 'إدارة الصراع” إلى مرحلة ترسيخ الوجود السياسي، وهو ما كانت إسرائيل تخشاه منذ البداية.
إسرائيل… الانتصار المستحيل
رغم كل محاولات التجميل الإعلامي، فإن إسرائيل تخرج من هذه الحرب مثقلة بخسارةٍ ثلاثية:
خسارة الردع العسكري، بعد فشلها في القضاء على المقاومة.
خسارة المكانة الأخلاقية، بسبب الجرائم الموثقة ضد المدنيين.
وخسارة الوحدة الداخلية، حيث تحوّل المجتمع الإسرائيلي إلى جزرٍ متنازعة بين التطرف والواقعية.
اليمين الذي وعد بـ'الأمن التام” جلب عوضًا عنه الخوف الدائم.
والجيش الذي تفاخر بـ'الذكاء الاصطناعي في المعركة” انتهى غارقًا في متاهة الأسرى والجثث.
حتى حلفاء إسرائيل في الغرب باتوا يتحدثون عن 'عبء أخلاقي” يصعب الدفاع عنه.
في المقابل، استطاعت المقاومة أن تنقل المعركة من ساحة الدمار إلى ساحة السياسة — لتصبح إسرائيل لأول مرة في موقع من يُبرر لا من يُقرر.
ما بعد الاتفاق… هدنة أم معادلة جديدة؟
إذا وُقّع الاتفاق خلال الأيام المقبلة، فسيكون بداية مرحلة جديدة لا نهاية حرب.
فما يُراد اليوم هو إدارة الصراع لا حله.
لكن هذا 'الإدارة الجديدة” تحمل ملامح مختلفة:
إسرائيل مجبرة على القبول بتوازن قوى جديد، والولايات المتحدة على الاعتراف بأن السيطرة لم تعد أحادية، بينما العرب استعادوا بعض حضورهم السياسي المفقود.
أما الفلسطينيون، فقد كسبوا أهم ما في المعركة: حق الحياة دون إذنٍ من المحتل.
لقد أثبتت غزة أن الجوع لا يُكسر الإرادة، وأن الدواء الذي يُمنع من الدخول قد يصبح رمزًا لبقاء القضية حية.
هل يعود حنظلة إلى الحجر؟
منذ نصف قرن، رفع حنظلة حجره الأول في وجه دبابةٍ تمشي فوق الذاكرة.
اليوم، بعد أن تغيّر شكل السلاح، من القذائف إلى المفاوضات، ومن الأنفاق إلى الأوراق الموقّعة، يبدو السؤال ملحًّا:
هل يعود حنظلة إلى الحجر… أم يواصل المقاومة بلغةٍ جديدة؟
المقاومة الفلسطينية لم تفقد سلاحها، بل غيّرت أدواتها.
وإذا كانت البندقية قد فرضت حضورها في الميدان، فإن الكلمة والموقف والحق في الغذاء والدواء أصبحت الآن امتدادًا لتلك البندقية في ميدان السياسة.
لكن الخطر أن تتحوّل الاتفاقات — إن لم تُحمَ بالوعي — إلى أرشيف آخر في خزائن تل أبيب، كما حدث في أوسلو ووادي عربة وسواهما؛ تُحفظ النصوص، وتُنسى الدماء التي كُتبت بها.
الفرق هذه المرة أن غزة لم توقّع من موقع الهزيمة، بل من موقع البقاء.
ولهذا، فإن حنظلة لن يعود إلى الحجر إلا ليُذكّر العالم بأن كل اتفاق بلا عدالة، هو هدنة مؤقتة على طريق انتفاضةٍ جديدة.
فالمقاومة، مهما تبدّل شكلها، ستبقى عنوانًا للكرامة، والحجر سيظلّ حاضرًا في يد الطفل الذي لا يكبر… لأنه ببساطة لم يرَ بعدُ يوم الحرية.
---