اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٥ كانون الأول ٢٠٢٥
غزة تغيّر روح أوروبا.. لماذا يدخل البريطانيون الإسلام جماعات؟ #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي -
في توقيت لا يشبه أي توقيت آخر، يصدر تقرير بريطاني يعلن أن 'الصراع العالمي” — وبالتحديد حرب غزة — أصبح الدافع الأول لاعتناق الإسلام داخل بريطانيا. قد يبدو الرقم مجرد معلومة عابرة، لكن مدلولاته أعمق كثيرًا. فشباب أوروبا الذين كانوا يبحثون عن معنى شخصي، أصبحوا أمام تجربة سياسية وأخلاقية تهزّ القناعات الدينية والثقافية، وتحرك مياهاً راكدة منذ عقود.
اللافت أن التقرير لم يصدر عن مؤسسة إسلامية ولا عن مركز بحث عربي، بل عن 'معهد تأثير الإيمان على الحياة” IIFL، وهو مؤسسة أكاديمية بريطانية تقيس العلاقة بين الفضاء الروحي والسلوك الاجتماعي. وقد شمل الاستطلاع 2774 شخصًا غيّروا معتقداتهم الدينية مؤخرًا. المفاجأة أن 20% ممن اعتنقوا الإسلام أعلنوا أن السبب الرئيسي هو الصراع العالمي، بينما أشار 18% إلى أسباب تتعلق بالصحة النفسية.
هذا التلاقي بين السياسة والنفس ليس عبثيًا؛ فالجيوش التي تقاتل في غزة لا تخلق فقط مشاهد عسكرية، بل تخلق لحظة وعي عالمي. فجأة، يظهر الظلم واضحًا بلا وسطاء، وتظهر الرواية الإعلامية الغربية عارية أمام جمهورها. وهنا يبدأ التحول: ليس نحو الإسلام كدين، بل نحو الإسلام كمنظومة عدالة.
يقول التقرير إن الشباب البريطاني يرى العالم 'أكثر ظلمًا”، ويشكك في الإعلام، ويبحث عن قيمة خالصة. ولأن الإسلام في وعيهم يرتبط — بعد غزة — بمفهوم الإنصاف، أصبح الخيار الروحي الأقرب إلى التفسير الأخلاقي للعالم. ليس صدفة إذن أن تشهد المساجد في لندن ومانشستر وليفربول تدفقًا متزايدًا بعد أكتوبر 2023. فالصورة التي رسمتها الحرب صنعت شرخًا في الوعي العام، وفتحت الباب لأسئلة الهوية والمصير.
إلى جانب التحول نحو الإسلام، يشير التقرير إلى أزمة داخل الكنيسة الإنكليزية. فالمسيحيون باتوا أقل من النصف، بينما 39% من المشاركين أصبحوا 'لا دينيين”. وهذا يعني أن بريطانيا تعيش حالة انتقال من الإيمان المؤسسي إلى الإيمان الفردي، ومن الكنيسة إلى التجربة الشخصية. وفي هذا الفراغ الروحي، يصبح الإسلام — بما يحمله من وضوح وعقيدة مستقرة — نقطة جذب.
لكن لماذا الإسلام تحديدًا؟ لأن الإسلام، كما يراه الشباب، هو الدين الوحيد الذي قدّم موقفًا حاسمًا من الظلم في غزة. وعندما يبدأ الجيل الشاب بمراجعة مكانة الأخلاق في الدين، يظهر الإسلام كمنظومة قيمية متماسكة: العدالة، المساواة، التضامن، رفض المعتدي، حماية الضعيف. هذه المفاهيم تحولت — بفضل التغطية الواسعة للحرب — إلى لغة عالمية تتجاوز الدين.
وهنا تظهر نقطة مهمة: الإسلام في بريطانيا لم يعد خيار المهاجرين فقط. إنه خيار الجيل الثالث من البريطانيين الأصليين، خيار الباحثين عن معنى، خيار الذين كسروا حاجز الخوف الثقافي بعد أن رأوا الحقيقة على الشاشات لا في البيانات الحكومية.
ما يحدث في بريطانيا ليس 'أسلمة المجتمع” كما يصفه اليمين المتطرف، بل إعادة صناعة الضمير الأوروبي. وهذا التحول ليس معزولًا؛ بل هو جزء من موجة عالمية بدأت منذ حرب العراق وتكرست بعد غزة. ولأول مرة تقول استطلاعات الرأي إن الإسلام لم يعد يُنظر إليه كدين 'غريب” بل كبديل أخلاقي.
تأثير الحرب هنا يتجاوز السياسة. لقد خلقت غزة 'لحظة مرآة” رأى فيها الشباب أنفسهم في صفوف المظلومين لا الظالمين، وفي صفوف الحقيقة لا الرواية الرسمية. وكما حدث خلال حرب فيتنام، يصبح الظلم عاملًا حاسمًا في تشكيل المواقف الدينية.
إن دخول آلاف البريطانيين في الإسلام ليس حدثًا اجتماعيًا فحسب، بل مؤشر على تغيير في الهوية الوطنية البريطانية نفسها. فالمجتمع الذي كان يرى نفسه 'مركز العالم الأخلاقي” بات يعترف بأن الحقيقة قد تكون خارج أسواره.
النقطة الأخطر أن هذا التحول لا يقف عند حدود الدين؛ إنه يتمدد إلى الفلسفة السياسية. فجيل ما بعد غزة بدأ يشكك في دور حكوماته، وفي علاقة بريطانيا بالشرق الأوسط، وفي مفهوم العدالة الدولية.
بمعنى آخر، غزة لم تغيّر الميدان فقط… بل غيّرت الروح الأوروبية.
ما سيحدث لاحقًا قد يكون أعمق؛ لأن المجتمع الذي يعيد تشكيل ضميره، سيعيد تشكيل سياسته الخارجية. وهنا قد نجد أثرًا بعيد المدى على علاقة لندن بتل أبيب، وعلى موقفها من القضية الفلسطينية، وعلى مستقبل الأحزاب البريطانية نفسها.
باختصار، غزة فتحت بابًا لم يُغلق بعد؛ بابًا من الروح، من المعنى، من الحقيقة… جعل آلاف الناس يختارون الإسلام لأن العالم لم يعد كما كان، ولأن العدالة — كما يراها الجيل الجديد — لها اسم مختلف هذه المرة.












































