اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٢٩ أيار ٢٠٢٥
مقدمة تأملية
في زحام الضجيج الفكري، ووسط صراع الأصوات المتنافرة، يبقى العقل الحرّ نُسغًا نادرًا لا ينبت إلا في أرضٍ نقية. إن التحدي الأكبر ليس في امتلاك الأفكار، بل في تحريرها من سطوة الإكراه، وتصفية مرآتها من غبار الأهواء.
من هنا تنبع هذه الخاطرة التي ليست صرخة، ولا موعظة، بل تأمل هادئ في مآلات العقل حين يُقيد، والفكر حين يُجتزأ، والاختلاف حين يُختزل إلى عداوة. هي كلمات كتبتها من صميم قلق المثقف حين يرى انسحاب النور من مساحات الفكر، ويستشعر خطر الذوبان في مسلمات لا تُراجع.
أدلجة الفكر وتكلفة الانحياز
أرى أن أدلجة الفكر وتحويره يُفقِدان المثقف حريته، فصفاء الفكرة شرط لانتعاشها ونموّها، إذ لا تزهر الفكرة إلا في مناخ نقيّ من التوجيه والانحياز.
'العقل المقيَّد لا يُنبت فكرة حرة.' – عبد الرحمن بدوي
فما دام العقل أسير أطرٍ جاهزة، فإنه لا يلد إلا ما يرضي قيوده، ويتحول التفكير إلى تبرير، لا بحث ولا انعتاق.
وهم المؤامرة وغشاوة الوعي
والمؤسف أن تهيمن على عقولنا فكرة المؤامرة، فتغدو حجابًا كثيفًا يحول دون التفكير الحر، ويعتم نور الاستنارة العقلية.
'كلما زاد الخوف، قلَّ العقل.' – باروخ سبينوزا
فالإذعان لهذا الوهم يسرق منّا مسؤولية الفهم، ويُرضي فينا ميلًا للتقاعس عن مواجهة الحقيقة، بكل تعقيدها ومرارتها أحيانًا.
المخالف: خصمٌ أم شريك؟
أحيانًا ألوم نفسي والآخرين على ميلنا إلى قَصم المخالف، وفي خضم صراع الوجود نراه شرًّا مطلقًا، فنندفع إلى اجتثاثه بدل محاورته.
'عدوّك ليس من يخالفك، بل من يمنعك من الاستماع إليه.' – فريدريك نيتشه
ولعلّ التمرين الأرقى للعقل هو أن يصغي لمن يختلف معه، لا ليتنازل، بل ليتوسّع في الرؤية، ويُنمّي فهمه للوجود.
مساحات الالتقاء وروح التعايش
كنتُ وما زلتُ أحرص على مساحات الالتقاء، وأسعى لتضييق الفجوة العميقة، لنُحيي فينا روح التعايش الإنساني، بعيدًا عن الإقصاء والتطرف.
'ما يربط البشر ليس التشابه، بل القدرة على احترام الاختلاف.' – أمين معلوف
فما أكثر ما تُزهَق فيه القيم باسم الدفاع عنها، وما أقل ما نُقيم من جسور بين المختلفين حين تميل النفوس إلى الاستقطاب.
في نقد المسلمات الزائفة
إن اختزال نضالنا الحياتي في الهوامش والفروع، حتى تصبح مسلماتٍ لا تُراجع، هو خطأ جسيم يستدعي التوقف والتأمل.
'أسوأ القيود هي تلك التي لا نراها، لأننا اعتدنا العيش بها.' – إريك فروم
فالتقدم لا يكون إلا بمساءلة ما نظنه بديهيًا، والتجديد لا يبدأ إلا بكسر دائرة العادة الفكرية.
الفوضى الفكرية ومرض التناقض
الفوضى الفكرية والتشتت الذهني، الناتجان عن تكدّس قناعات متناقضة في وعاءٍ واحد، يولّدان انفصامًا خطيرًا قد يُلحق الأذى بصاحبه.
'حين تحتضن النقيضين دون وعي، تنشطر روحك إلى نصفين.' – كارل يونغ
الاتساق مع الذات ليس رفاهية، بل شرط نفسيّ وفكريّ لصحة العقل وسلامة الرؤية.
خاتمة تأملية
ليست هذه الخواطر حكمًا نهائيًا، ولا تأريخًا لمأزقٍ بعينه، بل محاولة للمقاومة الفكرية ضد التكلّس، وضد التحوّل إلى صدى لما نستهلكه دون وعي.
لقد تعلّمت أن العقل لا يولد حرًّا، بل يُنتزع حريته انتزاعًا، وأن الفكرة لا تزهر إلا حين تُروى بالشكّ، ويُحرَس جذعها بنقد الذات.
فليكن هذا التأمل دعوة للمراجعة، لا للمواجهة، وفسحة للحوار لا للخصام، عسى أن نسترد شيئًا من صفاء العقل في زمن التلوّث الأيديولوجي.