اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ٨ تموز ٢٠٢٥
في قلب الاقتصاد العربي، هناك نزيف خفي لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يُعيق كل نهضة، ويُفرغ التنمية من مضمونها. يُعرف هذا النزيف بـ'التسرب الاقتصادي'، ويقصد به خروج جزء كبير من القيمة المُنتجة محليًا إلى الخارج، سواء في صورة تحويل أرباح الشركات الأجنبية، أو الاعتماد المفرط على الاستيراد، أو حتى عبر هروب رؤوس الأموال المحلية.
ليست التنمية مرهونة فقط بمعدلات النمو، بل بكيفية بقاء الثروة داخل الوطن ودورانها في داخله. ومع أن الدول العربية تمتلك موارد بشرية وطبيعية هائلة، إلا أن الكثير منها يعاني من 'عُقم اقتصادي' ناتج عن أنماط إنتاج غير مكتملة، تقوم على تصدير المواد الخام واستيراد السلع المصنعة، مما يجعلها دائمًا على هامش السوق العالمي، لا في مركزه.
الخلل ليس فقط اقتصاديًا، بل فكريًا وإداريًا أيضًا. فغالبًا ما تُدار الاقتصادات العربية بعقلية تسعى إلى إرضاء مؤشرات ظاهرية، دون بناء قاعدة إنتاجية حقيقية، أو خلق اكتفاء ذاتي تدريجي. في الأردن مثلًا، تشير بيانات البنك المركزي إلى أن الشركات الأجنبية حوّلت ما يقارب 1.2 مليار دولار كأرباح إلى الخارج في عام 2022، في وقتٍ يواجه فيه الاقتصاد المحلي تحديات في التشغيل والاستثمار. هذا يعني أن جزءًا أساسيًا من الناتج لا يعود على الاقتصاد المحلي بأي فائدة إنتاجية حقيقية.
الاقتصاد، في جوهره، انعكاس لحالة الإنسان داخل مجتمعه: هل هو منتج؟ هل يشعر بالانتماء؟ هل يمتلك القدرة على المبادرة؟ حين يشعر الإنسان بأنه مجرد مستهلك في نظام لا يمنحه أدوات الإنتاج أو فرص العمل، يصبح الاقتصاد مفصولًا عن المجتمع، وتتحول التنمية إلى مشروع خارجي لا جذور له.
أما البنية الذهنية التي ترسّخ القبول بهذا الوضع، فهي بحاجة إلى مراجعة جذرية. لماذا بات من الطبيعي أن نُسلم أهم قطاعاتنا للشركات الأجنبية؟ ولماذا اعتدنا على الاعتماد الكامل على الاستيراد حتى في أبسط الصناعات؟ وهل أصبح فقدان السيطرة الاقتصادية مقبولًا ضمنيًا في العقل الجمعي؟
الحل لا يكمن فقط في تقليل الواردات أو رفع الضرائب، بل في تأسيس بنية إنتاجية متكاملة. اقتصاد يشجع الاستثمار المحلي، ويربط التعليم بسوق العمل، ويفتح المجال للمبادرات الصغيرة، ويمنح الأفضلية للمشاريع التي تعيد استثمار الأرباح داخل البلد، لا تلك التي تخرجها خارجه.
ولفهم هذا أكثر، يمكن النظر إلى ماليزيا التي نجحت في تقليص التسرب الاقتصادي عبر ما يُعرف بسياسة 'القيمة المضافة المحلية'. إذ فرضت الدولة على الشركات الأجنبية نسبة توطين للموارد، واستخدمت الحوافز الضريبية بذكاء لإعادة استثمار الأرباح محليًا. كذلك، في كوريا الجنوبية، تم تشجيع الصناعات المحلية على الدخول في سلاسل الإمداد العالمية، بدعم حكومي وتعليمي متكامل، مما جعل الاقتصاد أكثر توازنًا واستقلالًا.
في الأردن، هناك طاقات شبابية واسعة تحمل مؤهلات عالية، لكنها غالبًا ما تبقى على هامش الاقتصاد أو تهاجر بحثًا عن فرصة، ما يضيف بعدًا آخر للتسرب، ليس فقط المالي بل البشري أيضًا. كما أن التعقيدات الإدارية والضريبية تعيق نمو المشاريع الصغيرة التي تُعد العمود الفقري لأي اقتصاد منتج.
إن وقف التسرب الاقتصادي ليس رفاهية، بل ضرورة. فكل دينار يخرج دون قيمة مضافة محلية هو فقدان لحلقة في سلسلة التنمية. وكل مشروع لا يرتبط برؤية وطنية هو جهد مؤقت لا يصنع تحولًا حقيقيًا.
نحتاج إلى وعي اقتصادي جديد، يؤمن أن الاستقلال لا يُقاس فقط بالسيادة السياسية، بل بالقدرة على إنتاج الغذاء، وتدوير المال، وتوطين الأرباح، وتحويل الإنسان إلى فاعل اقتصادي لا مجرد مستهلك. التنمية الحقيقية تبدأ حين يتوقف المال عن الهروب، ويبدأ بالعمل داخل الوطن، لصالح من يعيشون فيه.