اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٣ حزيران ٢٠٢٥
أيُّ صحيفةٍ ننتظر أن تُشَقَّ؟
خلود العجارمه
وغَدَا زهيرُ بنُ أبي أُميّة، في يومٍ من أيامِ مكة، يلبسُ حُلّةَ وقار، ويمشي بثباتِ مَن يعرفُ الحقَّ، ولا يخشى في اللهِ لومةَ لائم، فطافَ بالكعبةِ سبعًا، ثم أقبلَ على الناس، فيهم وجهاءُ قريشٍ وساداتُ العرب، وقال فيهم كلمتهُ الخالدة:
'يا أهلَ مكة! أنأكلُ الطعامَ ونلبسُ الثياب، وبنو هاشم هَلْكَى، لا يُباعُ منهم ولا يُبتاع؟! واللهِ لا أَقْعُدُ حتى تُشَقَّ هذه الصحيفةُ القاطعةُ الظالمة!'
تلك كانت صحيفةَ الحصار، التي كتبها الحاقدون على محمدٍ وآله، ليعزلوهم في شعابِ مكة، بلا طعام، بلا شراب، بلا رحمة.
ثلاثة أعوامٍ قضاها بنو هاشم في ألمٍ لا يُطاق، حتى تأكلَ أوراقَ الشجر، ويئنَّ الأطفالُ من الجوع، إلى أن وقفَ الشرفاءُ، فتمزَّقت الصحيفة.
لكن، يا وَيْحَ قلوبنا!
ما أقسى أن يُعادَ التاريخُ في صورةٍ أَبشَع!
ما أَبشَعَ أن نظنَّ الصحائفَ قد تمزَّقت، بينما تُكتَبُ كلَّ يومٍ بمِدادٍ من دم، وتُوقَّعُ بصمتِ هذا العالمِ البارد!
أيُّ صحيفةٍ اليومَ على غزةَ كُتِبَت؟
أيُّ وثيقةٍ جائرةٍ تلك التي جعلت دماءَ الأطفالِ ماءً، وجعلتِ الموتَ مشهدًا عاديًّا؟
أيُّ زمانٍ هذا الذي يُحرَقُ فيه شعبٌ بأكمله، فلا يقومُ زُهَيْرٌ ليقول: 'لا والله، لا أَجْلِسُ حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة!'
نحن في زمنٍ لا تُشَقُّ فيه الصحف، بل تُمرَّر، وتُنسى، وتُبَرَّر.
نحن في زمنٍ تُحرَقُ فيه غزةُ كلَّ ساعة، لا كما أُحرِقَ أصحابُ الأخدودِ مرةً واحدة.
نارُ أصحابِ الأخدودِ ذاتُ وقود، غضبُ اللهِ توعَّد فاعليها،
لكنَّ غزةَ اليومَ تُحرَقُ بوقودِ القهر، والحصار، والخِذلان.
أطفالٌ يُسحَقون تحتَ الركام، وأمهاتٌ يَحمِلْنَ فَلَذَاتِ أكبادِهنَّ شُهَداء،
أرضٌ تُجتَثُّ، ومساجدُ تُدَكُّ، وبيوتٌ تتحوَّل إلى رماد، والعالمُ يُدوِّنُ ملاحظاتِه… فقط!
أين أنتم، يا من تقرؤونَ التاريخ؟
أما علمتُم أنَّ الصمتَ في حضرةِ الجريمةِ جريمة؟
أما سمعتم زُهَيْرًا وهو يصرخُ في وجوهِكم من قرونٍ خلت:
لا تلبسوا الحريرَ وهناك مَن ينامُ على الجوع،
لا تتكئوا على الأرائكِ وهناك مَن يتوسَّدُ الحجارةَ ويُغطَّى بالدَّم!
غزةُ اليومَ لا تطلبُ طعامًا، ولا ماءً، ولا عطفًا.
غزةُ تطلبُ عدلًا، وتنتظرُ شهامةً، وتُراهنُ على مَن تبقّى في قلبِه نَخْوَة.
فإمَّا أن نكونَ اليومَ ممَّن يُمزِّقُ الصحيفةَ بأقلامِ الكرامة، وألسنةِ الحق، ومواقفِ الرجولة،
وإمَّا أن نُترَكَ على هامشِ التاريخ، مُقيَّدينَ بقيودِ الخزي، نتوارى من الأرضِ ومن أنفسِنا،
وتُسجَّل علينا صحيفةٌ أخرى…
صحيفةُ صمتِنا!