اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
بين السياسة والمجتمع: حين تتجاوز وزارة الداخلية دورها
أثارت المبادرة الأخيرة التي أطلقها معالي مازن الفراية وزير الداخلية لتنظيم 'الظواهر الاجتماعية' موجة واسعة من الجدل في الشارع الأردني، بعد أن وُصفت بأنها تدخل مباشر في منظومة العادات والتقاليد والأعراف العشائرية التي تُشكّل جوهر النسيج الاجتماعي الأردني منذ عقود طويلة.
ورغم أن الهدف المعلن للمبادرة يتمحور حول 'الحد من المظاهر المبالغ بها في المناسبات الاجتماعية كالأعراس والعزاء'، إلا أن طريقة الطرح والإخراج أثارت تساؤلات مشروعة حول حدود صلاحيات الوزارة ودورها الحقيقي في مثل هذه القضايا.
من المؤكد أن دور وزارة الداخلية بطبيعته سياسي وتنظيمي، ومنصب وزير الداخلية في أي دولة يُعدّ منصباً سياسياً سياديا يتعامل مع الأمن الوطني، النظام العام، شؤون المحافظات، الأحزاب، والانتخابات، أي أنه معنيّ بإدارة الشأن العام لا توجيه السلوك الاجتماعي أو إعادة صياغة العادات والقيم الإجتماعية أو تقنينها.
فإطلاق مبادرات ذات طابع اجتماعي كتنظيم عدد المدعوين في الأفراح أو تقليص أيام العزاء يضع الوزارة في موقع الوصي على العادات لا الحارس على القوانين، وهو ما يُعتبر تجاوزا لمبدأ الفصل بين الوظيفة الأمنية والدور الثقافي أو الاجتماعي الذي تختص به مؤسسات أخرى مثل وزارة الثقافة، والتنمية الاجتماعية، والأوقاف.
علاوة على ذلك فالعادات والتقاليد ليست مجالًا للتقنين الإداري، فالعادات العشائرية في الأردن ليست ظواهر هامشية، بل مكوّن أساسي من الهوية الوطنية، فالكرم في الفرح، والمواساة في العزاء، والمشاركة في المناسبات ليست مجرد مظاهر اجتماعية، بل قيم متوارثة تعبّر عن التضامن والاحترام المتبادل بين أبناء المجتمع، ولهذا فإن أي محاولة لتقنينها أو تحديدها بعدد المدعوين أو بعدد أيام العزاء، تمسّ جوهر الثقافة الاجتماعية الأردنية وتُفقدها طابعها الإنساني الطبيعي.
كما أن الإصلاح الاجتماعي لا يتم بقرارات إدارية، بل بالتوعية والتدرّج والتفاهم مع المجتمع عبر القيادات المحلية وشيوخ العشائر والوجهاء، وليس عبر مبادرات مركزية تصدر من مكاتب الوزارة.
واللافت في الاستفتاء الإلكتروني الذي أطلقته وزارة الداخلية أنه لم يُتح للمواطنين سوى خيار واحد هو 'أؤيد”، ما أفقد الفكرة طابعها التشاركي وحوّلها إلى عملية استفتاء شكلي لقرار جاهز، وهذا ما عزّز الانطباع بأن الهدف ليس التشاور، بل الحصول على غطاء شعبي مسبق لتوجه حكومي محدد، مما يتعارض مع مبدأ المشاركة في صناعة القرار العام.
وعلاوة على ما سبق الإصلاح الاجتماعي مسؤولية مؤسسات المجتمع، وإذا كان الهدف تخفيف المظاهر المبالغ فيها أو الحد من التكاليف الاجتماعية، فإن المدخل الصحيح هو الشراكة المجتمعية من خلال: مجالس العشائر، الوزارات المعنية بالشؤون الاجتماعية والثقافية،
الإعلام الوطني، والقيادات المحلية التي تفهم طبيعة المجتمع من الداخل، وبهذه الطريقة فقط يمكن أن نحافظ على التوازن بين الأصالة والتحديث، دون المساس بالقيم التي تميّز المجتمع الأردني وتوحّده.
لا شك أن النية في جوهرها هادفة، فالمبالغة في المناسبات باتت تؤرق كثيرين، لكن النية وحدها لا تبرّر الوسيلة، فحين تُستخدم السلطة الإدارية لتقنين السلوك الاجتماعي، يتحوّل الإصلاح من جهد هادف إلى شكل من أشكال الوصاية والفرض القسري، ويصبح التجاوب الشعبي رفضًا مبدئيًا لأي تدخل رسمي في الشأن الاجتماعي.
أخيراً الوزارة التي يفترض أن تحمي النظام العام يجب ألا تتورط في إعادة تشكيل العادات الاجتماعية، فالداخلية ليست وزارة توجيه اجتماعي، بل وزارة إدارة سياسية وأمنية، وأي خلط بين هذين الدورين يُربك العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويضعف ثقة الناس بالمبادرات الحكومية مهما كانت نياتها طيبة، فالمجتمعات لا تُدار بالتعليمات والمبادرات، بل تُصان بالحوار والتفاهم والاحترام.
ختاماً، شخصياً لا أؤيد مبادرة معالي وزير الداخلية، ولم أقم بالتوقيع عليها ضمن إحدى الدعوات التي أقيمت في محافظة إربد بهذا الخصوص، لأن الظواهر التي تنادي المبادرة بتغييرها ليست ظواهر سلبية، بل ممارسات اجتماعية أردنية رصينة تعبّر عن التكافل والكرم والاحترام المتبادل.