اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٥ أيلول ٢٠٢٥
روسيا والعالم العربي: آفاق ورؤى المستقبل
أزهر الطوالبة
شهدت الجامعة الأردنيّة، يوم أمس، ندوة لافتة، نظّمها معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية – الجامعة الأردنية ومركز الدراسات الاستراتيجية والتنبؤ السياسي 'سيفاستوبول – موسكو، حملت عنوان 'روسيا والعالم العربي: آفاق ورؤى المستقبل'. هذه النّدوة، التي جمعت باحثين وخبراء في السياسة الدولية والعلاقات العربيّة–الروسيّة، لم تكن مجرّد نقاشٍ أكاديميّ، بل جاءت في توقيتٍ بالغ الدّلالة، وسطَ تحوّلاتٍ عالميّة تُعيد رسم خرائط النفوذ، وتطرح على العرب سؤالًا قديمًا متجدّدًا: كيف نتعامل مع روسيا كلاعبٍ دوليٍّ صاعِد، مُجدّدَا، في منطقتنا؟
كما، وبكُلّ تأكيد، طرحَ المتحدّثون أفكارًا تكشِف حجم التّعقيد الذي يطبع العلاقة العربية–الروسية. فمن جهة، ثمة إدراك عربيّ بأنَّ النظام الدولي لم يعد أحاديّ القطب، وأنّ روسيا اليوم –رغم ما تواجهه من تحديات بعد حرب أوكرانيا– ما تزال قادرة على التأثير في ملفات الشرق الأوسط الكبرى، من سوريا إلى ليبيا، ومن أمن الطاقة إلى موازين التحالُفات الإقليميّة. ومِن جهةٍ أخرى، فإنّهُ مِن المُمكِن أن تكونَ هناكَ أسئلة صريحة، برُزَت حول حدود هذه الشراكة، أهمّها: إلى أيّ مدىً يمكن للعرب أن يُراهنوا على موسكو شريكًا استراتيجيًا، دونَ أن يًغامِروا بعلاقاتهم مع الولايات المُتحدة والغرب؟
إنَّ الحضور الروسي في العالم العربي لَم يك يومًا شأنًا عابرًا أو طارئًا، بل هو امتدادٌ لتاريخٍ طويل من التّفاعل والمصالح المُتشابكة، يبدأ من الحُقبة السوفييتيّة ويمتدّ إلى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي وصولًا إلى روسيا البوتينيّة اليوم. لكن، ما يميّز اللحظة الراهنة هو أنّ موسكو باتت فاعلًا دوليًا يسعى إلى إعادة صياغة التوازنات العالمية، في وقتٍ يشهد فيه النظام الدولي تحولاتٍ عميقة تُضعِف الهيمنة الأميركية وتفتح أمام العرب هامشًا أكبر للمناورة.
ففي العقدين الأخيرين، نجحت روسيا في تثبيت أقدامها في ملفاتٍ عربية معقّدة، من سوريا إلى ليبيا، ومن الملفٍ النوويّ الإيرانيّ إلى سوق الطاقة الخليجي. هذا الحضور ليس مجرد مغامرة عسكرية أو اقتصادية، بل هو مشروع استراتيجي يهدف إلى ترسيخ روسيا كقوّة قادرة على مًنافسة واشنطن، والتأثير في مسارات القضايا الإقليمية الكبرى.
ففي سوريا، مثلًا، استطاعت موسكو أن تفرض معادلة جديدة أعادت لها مكانة الوسيط القادر، على الأغلَب، على الجمع بين أطراف مُتخاصِمة، وأعادت تأكيد أنَّ الكلمة الفصل في أزمات المنطقة لم تعد حكرًا على البيت الأبيض. وفي أسواق الطاقة، عزّزت روسيا تحالفاتها مع دول 'أوبك+”، وخاصة السعودية، لتكون شريكًا لا يمكن تجاوزه في معادلة استقرار أسعار النفط.
وكُلّ ذلك، أكّدَ على توافُرٍ لأرضيّة 'المصالِح المُتبادَلة'. فالعَرب يكتاجونَ إلى روسيا بقدر ما تحتاج موسكو إليهم. فبالنسبة للعالم العربي، تمثل روسيا خيارًا استراتيجيًا لتقليل الارتهان للولاياتِ المُتحدة والغرب، سواء في مجالات التسلُّح أو التكنولوجيا أو التعاون في الطاقة والفضاء. أما بالنّسبة لروسيا، فإنّ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشكّلان منفذًا حيويًا لتوسيع أسواقها، ومجالًا ضروريًا لتمديد نفوذها السياسي والعسكري، فضلًا عن كونهما ساحة لتأكيد حضورها في لعبة التوازنات الدولية.
وعلى الرّغم مِن كُلّ ذلك، فإنَّ هذه العلاقة تظلّ محفوفة بتحديات جوهريّة. فالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا، بعد حرب أوكرانيا، تُعقّد من مسار التعاون الاقتصادي، وتضع الدول العربية أمام اختبارٍ صعب في موازنة علاقاتها مع موسكو وواشنطن. كما أنّ تفاوت المواقف العربية من أزمات مثل أوكرانيا أو الملف السوري يجعل بناء موقف عربي موحّد تجاه روسيا أمرًا معقدًا.
ومع ذلك، فإنّ هذه التحدّيات نفسها قد تُشكّل فرصًا. فالتنافس الأميركي–الروسي يمنح العرب مساحة لتوسيع خياراتهم، سواء في تنويع مصادر السلاح أو استقطاب الاستثمارات الروسية، أو حتى في لعب دور الوسيط في النزاعات الكبرى.
على أيّة حال..يشي المستقبل القريب بأنّ العلاقة الروسية–العربية ستتخذ مسارًا تصاعديًا، خاصة في مجالات الطاقة، الأمن الغذائي، التكنولوجيا النووية، والتسليح. فدول الخليج، بما تملكه من إمكانات مالية وموقع جيوسياسي، ستكون الأكثر قدرة على تعميق هذه الشراكة، في حين يمكن لدول مثل مصر والجزائر أن تواصل تعزيز تعاونها الدفاعي مع موسكو.
غير أنّ النجاح في بناء علاقة استراتيجية متينة يتطلب من العرب أن يتعاملوا مع روسيا بواقعية سياسية، بعيدًا عن أوهام التحالفات الأيديولوجية أو الرغبة في استبدال تبعية بأخرى. فروسيا، في نهاية المطاف، دولة كبرى تتحرك وفق مصالحها، ولن تكون 'حليفًا مخلصًا' بقدر ما هي 'شريك ظرفي” يُقدّر ميزان القوى.
الخُلاصة: روسيا والعالم العربي يقفان اليوم عند مفترق طرق. أمامهما فرصة تاريخية لتطوير شراكة متوازنة تُعيد للعرب هامش الفعل في النظام الدولي، وتمنح موسكو نافذة لتعزيز نفوذها في منطقة حيوية. لكن، هذه الشراكة لن تُبنى على العاطفة أو المجاملات، بل على إدراك عميق للمصالح المتبادلة، واستثمار ذكي في التحوّلات الكبرى، التي يشهدها العالم. فالعرب الذين يحسنون قراءة المتغيرات، ويمتلكون شجاعة اتخاذ القرار المستقل، قادرون على تحويل روسيا من مُجرد لاعب دولي إلى رافعة حقيقية لمستقبلٍ أكثر توازنًا وأقل خضوعًا لهيمنة القطب الواحد.












































