اخبار الاردن
موقع كل يوم -سواليف
نشر بتاريخ: ١٢ تموز ٢٠٢٥
“ #مؤشر_النزاهة في البحث العلمي وأثره في #تصنيف_الجامعات: أداة علمية قاصرة في مواجهة المعايير الأكاديمية العالمية”
بقلم الأستاذ الدكتور أمجد الفاهوم
جامعة اليرموك
ترددت كثيرا في الخوض بموضوع تصنيف البحث العلمي في الجامعات ظنا مني إنها سحابة صيف وتمر دون أثر إلا ان مجمل النقاشات كانت اماً نقدا حادا للإدارات الجامعية والجامعات العربية او على النقيض دفاعا مستميتا عنها وكلاهما جانبهما الإنصاف. في خضم الجهود العالمية الرامية إلى تحسين جودة التعليم العالي وتعزيز مكانة الجامعات في ميادين البحث العلمي، برز مؤخراً ما يسمى بـ “مؤشر مخاطر النزاهة البحثية” (Research Integrity Risk Index – RI²)، وهو أداة تحليلية حديثة طُورت عام 2025 من قبل الدكتور لقمان مهو في الجامعة الأمريكية في بيروت. يهدف المؤشر إلى تقييم مخاطر النزاهة في المؤسسات الأكاديمية من خلال تحليل معدل سحب المقالات (Retraction Rate) ونسبة النشر في مجلات أُزيلت من قواعد بيانات علمية مرموقة مثل Scopus وWeb of Science. ورغم وضوح النية وراء تطويره لتعزيز الممارسات الأخلاقية، إلا أن استخدامه كأداة تصنيف جامعي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية، محلياً وعالمياً.
يعتمد RI² على بيانات مفتوحة تُستمد من قواعد بيانات موثوقة، وهي شفافة وقابلة للتحقق، مما يمنحه قوة أولية في إثارة نقاشات حول النزاهة العلمية. كما يُنظر إليه من بعض الزوايا كأداة تشخيصية نوعية تكمّل التصنيفات العالمية الأخرى التي تُركّز تقليدياً على مؤشرات الكمية والسمعة والتمويل. ومع ذلك، فإن اقتصار المؤشر على معيارين فقط هما معدل سحب الأبحاث والنشر في مجلات محذوفة، يخلق اختزالاً مفرطاً لظاهرة معقدة مثل النزاهة الأكاديمية، ويغفل عناصر أخرى جوهرية كالبنية التحتية، ومستوى الرقابة الأكاديمية، وجودة التعليم والبحث، والخصوصية المؤسسية والسياقات الوطنية المختلفة.
في السياق العربي، أثار RI² ردود فعل قوية. تصنيفه للعديد من الجامعات في المغرب ومصر والسعودية كجامعات ذات “مخاطر عالية” في النزاهة البحثية، دفع كثيرين للتشكيك في دقة المنهجية وملاءمتها للبيئات ذات الموارد المحدودة. على سبيل المثال، نُشرت تقارير تُظهر أن جامعة الملك سعود قد سجلت نحو 986 ورقة بحثية في مجلات محذوفة خلال 2023–2024، ما أدى إلى تصنيفها ضمن الفئة الحمراء، دون أن يصدر عن الجامعة توضيح رسمي، وهو ما أثار تساؤلات إضافية حول قبول هذا المؤشر ومدى تمثيله للواقع المؤسسي. أما في الأردن، فقد وُصفت جميع الجامعات الرسمية تقريبًا ضمن فئات غير مرضية في المؤشر، ما أشعل جدلاً واسعاً بين الأكاديميين الذين دعوا إلى مقاربة أكثر عدالة تأخذ بالاعتبار السياق المحلي ومستوى الوعي بالمجلات المفترسة.
واحدة من أبرز الانتقادات المنهجية الموجهة للمؤشر تتمثل في غياب التمييز بين الأخطاء الفردية والانحرافات المؤسسية. فالمؤشر يُحمّل الجامعة ككل مسؤولية نشر باحثٍ واحد في مجلة منخفضة الجودة أو تُعاني من مشاكل تحريرية، مما قد يُسبب تشويهًا غير عادل لسمعة المؤسسة بأكملها. كما أن التصنيف القائم على النشر في مجلات “محذوفة” يفترض سلفاً أن جميع المجلات المحذوفة تفتقر إلى النزاهة أو المصداقية، في حين أن العديد من المجلات تُحذف لأسباب تتعلّق بالتحول في السياسات التحريرية أو التقييم الفني وليس بالضرورة الفساد العلمي.
تزداد خطورة استخدام هذا المؤشر حين يُعامَل كتصنيف رسمي، كما بدأت بعض الجهات في التعاطي معه. فالمؤشر لا يُقدّم مؤشرات على جودة الأبحاث المنشورة، ولا على أثرها الأكاديمي، ولا على عدد الجوائز الممنوحة، أو التعاون البحثي الدولي، أو مساهمة الجامعة في التنمية الاقتصادية والمعرفية، وهي المعايير التي تشكل العمود الفقري لتصنيفات عالمية مثل QS، وShanghai Ranking، وTimes Higher Education. هذه التصنيفات تعتمد معايير واضحة قابلة للقياس، وتصدر عن جهات معترف بها دولياً، وتخضع لتحديث سنوي ومراجعة خارجية مستقلة، وهو ما لا يتوفر في RI² حتى اللحظة.
وعلى الرغم من أن بعض النقاد يثنون على المؤشر لما يُوفره من ضوء على ظواهر مقلقة مثل النشر في مجلات مفترسة أو ضعف سياسات الرقابة المؤسسية، فإن المنهجية التي يتبعها تفتقر إلى المرونة والشمولية. فهو لا يراعي الفروقات في الموارد والفرص البحثية بين الجامعات في الدول النامية والمتقدمة، مما يؤدي إلى تصنيفات غير منصفة قد تضر بسمعة مؤسسات لا تزال في طور بناء قدراتها. إضافة إلى ذلك، فإن تجاهل السياق المحلي – سواء من حيث الثقافة المؤسسية أو السياسات الوطنية – يجعل من RI² أداة قاصرة عن تقديم تقييم موضوعي أو إصلاحي فعّال.
على المستوى العالمي، لم يحظ المؤشر حتى الآن باعتراف من الجهات المانحة أو منظمات الاعتماد الأكاديمي، ويُنظر إليه كمبادرة فردية أكثر من كونه إطارًا مؤسسيًا معتمدًا. قبوله لا يزال محدودًا، وتأثيره على سياسات الجامعات الدولية أو على الشراكات الأكاديمية العالمية لم يتبلور بعد، رغم تصدره بعض النقاشات في البيئات ذات الحراك البحثي المكثف. بل إن بعض الأكاديميين يرون أن التركيز على النزاهة من خلال هذا المؤشر قد يتحول إلى سيفٍ ذو حدين: فهو يسلّط الضوء على الخلل لكنه قد يُستخدم لتصفية الحسابات أو الضغط على مؤسسات تُظهر مؤشرات نمو علمي ملحوظ.
لا يمكن إنكار أن النزاهة الأكاديمية عنصر أساسي في البحث العلمي، وأن فضح ممارسات النشر المشبوهة ضرورة ملحّة. لكن لا يمكن لهذا العنصر الأخلاقي أن يتحوّل إلى أداة تصنيف بديلاً عن التميز البحثي والعلمي الحقيقي. وقد بدأت بالفعل بعض التصنيفات الدولية بدمج مؤشرات الحوكمة والشفافية ضمن تصنيفات فرعية كما في “تصنيف التأثير” الذي أطلقته Times Higher Education، إلا أنها لم تسحب البساط من المؤشرات البحثية الأساسية.
المؤسسة الجامعية لا تُقاس فقط بعدد المجلات التي نُشرت فيها أبحاثها، بل بما تُنتجه من معرفة، وما تساهم به في تشكيل المجتمع العلمي العالمي، وما تتيحه من بيئة بحثية عادلة ومتقدمة. وأي محاولة لتقييم الجامعات بناءً على عنصر واحد، بمعزل عن السياق والعمق، هي اختزال ضار لا يُخدم تطوير التعليم العالي. المطلوب اليوم ليس رفض مؤشر RI² بالكامل، بل إعادة وضعه في مكانه الصحيح كأداة تشخيصية داعمة، وليست أداة إدانة أو تصنيف.
ختامًا، فإن مؤشر النزاهة البحثية RI²، رغم وجاهة مقصده، لا يزال أداة ناقصة، لا تملك الصلاحية الكافية للحكم على أداء الجامعات أو ترتيبها عالمياً. إن استغلال هذا المؤشر بمعزل عن المعايير العلمية الشاملة يفتح الباب لتقييمات غير متوازنة، تُحمّل المؤسسات ما لا تتحمّله من أخطاء، وتُغفل في الوقت ذاته منجزاتها. وعلى صانعي السياسات في التعليم العالي أن يتبنوا نهجًا متزنًا، يدمج مبادئ النزاهة مع مؤشرات الجدارة العلمية، دون الوقوع في أفخاخ التصنيف السطحي أو التقييم غير العلمي.