اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢ كانون الأول ٢٠٢٥
اقتصاد أكبر… رؤية أوضح: ماذا يعني تحديث سنة الأساس وارتفاع الناتج للمواطن؟
د. عدلي قندح
لم يعد قياس الاقتصاد مجرد عملية حسابية جامدة، بل أصبح مرآة دقيقة تُظهر مدى تطور المجتمع وتحولاته العميقة. وفي هذا السياق، جاء إعلان دائرة الإحصاءات العامة عن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 39.8 مليار دينار بعد تحديث سنة الأساس وتطوير منهجيات القياس، ليطرح أسئلة مشروعة حول معنى 'اقتصاد أكبر”، وما الذي تحمله هذه الأرقام للمواطن العادي.
فالاقتصاد الحديث يتغير بسرعة تفوق قدرة الأساليب القديمة على مواكبته. تظهر قطاعات جديدة، وتتوسع أنشطة غير رسمية، وتتبدل أنماط الاستهلاك، وتدخل التكنولوجيا في كل زاوية من حياتنا. ومن غير المنطقي أن نقيس اقتصاد اليوم بأدوات ومرجعيات مضى عليها عقد أو أكثر. ولهذا، فإن تحديث سنة الأساس — وهي السنة المرجعية التي تُقاس على أساسها الأسعار الحقيقية والتغيرات الاقتصادية — ليس ترفاً إحصائياً، بل ضرورة علمية لضمان أن تعكس المؤشرات الواقع كما هو، لا كما كان.
ومجرّد تغيير سنة الأساس يغيّر الصورة الاقتصادية بالكامل. فالقطاعات التي كانت صغيرة قبل سنوات أصبحت اليوم مؤثرة، وبعض الأنشطة التي لم تُحتسب سابقاً باتت الآن جزءاً من الناتج، مثل الاقتصاد الرقمي وخدمات التطبيقات والتجارة الإلكترونية. وهذا ما يفسر ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي في الظاهر: الاقتصاد لم يكبر فجأة، بل أصبحنا نقيس حجمه الحقيقي بدقة أكبر.
تكمن أهمية الناتج المحلي الأكبر في أنه يعيد رسم مؤشرات الاقتصاد الأساسية. فعندما يكبر الناتج، تتحسن نسبة الدين إلى الناتج، وتنخفض المخاطر المالية، وتزداد قدرة الدولة على الوصول لتمويل بشروط أفضل، وهو ما قد يسمح بتوجيه موارد إضافية نحو الخدمات العامة. كما يعطي هذا التحديث صورة أوضح للمستثمرين حول حجم السوق وتنوع أنشطتها، ما يعزز الثقة ويشجع الاستثمارات وخلق فرص العمل على المدى المتوسط والبعيد.
أما سنة الأساس الجديدة، فهي أداة لاحتساب النمو والتضخم والأسعار الحقيقية بمنهجية حديثة. فمن دون تحديثها تصبح الأرقام مشوهة، وقد تصف اقتصاداً غير موجود بالفعل. ومع التحديث، يصبح النمو أكثر واقعية، والتضخم أكثر دقة، والمقارنات الزمنية أكثر اتساقاً، ما يعزز مصداقية البيانات محلياً ودولياً. وعلى المستوى العلمي، يتيح هذا التحديث إعادة تقييم هيكل الاقتصاد، وتحديد القطاعات الأكثر ديناميكية وتلك الأكثر هشاشة، مما يزوّد صانع القرار برؤية أعمق لتوجيه السياسات بكفاءة أعلى.
يبقى السؤال: وأين المواطن من كل ذلك؟
هذا التحديث بحد ذاته لا يرفع الرواتب ولا يخفض الأسعار مباشرة. لكنه يفتح الباب أمام فوائد غير مباشرة لكنها جوهرية. أولاً، تقوية مركز الاقتصاد يقلّل المخاطر ويُحسن بيئة الاستثمار، ما يساهم في خلق فرص عمل. ثانياً، اعتماد بيانات حديثة في السياسات العامة يقلّل الهدر ويزيد كفاءة الإنفاق، وهو ما ينعكس تدريجياً في جودة الخدمات. ثالثاً، تعزيز الثقة العامة، فحين يدرك المواطن أن اقتصاد بلده أكبر وأكثر تنوعاً مما كان يُعتقد، يصبح المستقبل أقل ضبابية وأكثر قابلية للتوقع.
وفي ضوء هذه الصورة المحدّثة لحجم الاقتصاد وتركيبته، يصبح من الضروري النظر إلى خطة التحديث الاقتصادي التي يتبناها الأردن منذ منتصف عام 2022 بوصفها الإطار التنفيذي الأهم لتحويل الأرقام إلى نتائج. ورغم شمولية الخطة، فإن تحديث سنة الأساس يكشف عن قطاعات باتت أكثر وزناً، مثل التكنولوجيا المالية، الاقتصاد الرقمي، الخدمات اللوجستية، والصناعات الإبداعية، وهي قطاعات لم تكن ممثلة بالقدر الكافي عند إعداد الخطة قبل أكثر من عامين.
ولهذا فإن الخطة ــ رغم أهميتها ــ تحتاج إلى تحديث ذكي وإعادة تموضع يأخذان في الاعتبار البيانات الجديدة ويعيدان ترتيب الأولويات بناءً على القطاعات الأسرع نمواً والأكثر قدرة على خلق وظائف نوعية. كما يستدعي ذلك تعزيز أدوات قياس الأداء وربط الموازنة العامة ببرامج الخطة لضمان أن تتحول رؤية التحديث إلى نتائج ملموسة في الإنتاجية، والابتكار، وتحسين بيئة الأعمال. فالتحديث الإحصائي بلا تحديث في السياسات والهياكل يبقى ناقصاً.
إن تحديث سنة الأساس وارتفاع الناتج المحلي ليس مجرد خبر اقتصادي، بل هو إعادة رسم لخريطة الاقتصاد الوطني. إنه انتقال من قراءة ضبابية إلى صورة أوضح، ومن تقديرات ناقصة إلى بيانات أكثر شمولاً. لكن القيمة الحقيقية لهذا التغيير لا تتحقق إلا عندما تُترجم هذه الصورة الدقيقة إلى سياسات إصلاحية جريئة، وإرادة تنفيذية، ورؤية تنموية تستفيد من الأرقام بدلاً من الاكتفاء بإعلانها.
ويبقى السؤال الأكبر — الذي يهم المواطن قبل غيره — هو:
هل ستنجح الدولة في تحويل هذا 'الاقتصاد الأكبر” إلى 'حياة أفضل”؟
الإجابة ليست في الإحصاءات، بل في كيفية إدارة المرحلة المقبلة.












































