اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ٢٠ حزيران ٢٠٢٥
واشنطن تضرب بصمت… وإسرائيل تُطلق النار
فايز محمد أبو شمّال
هجوم 'اليوم 61” على إيران يعيد كشف الدور الوظيفي لإسرائيل في المشروع الإمبريالي الأمريكي
منذ خمسينيات القرن الماضي، تشكّل في أدبيات حركات التحرر الوطني العربية، وخصوصًا الفلسطينية، فهمٌ جذري لطبيعة المشروع الصهيوني: لم يكن قيام 'إسرائيل” تعبيرًا عن مشروع قومي مستقل لليهود، بل تأسس ليكون رأس حربة متقدمًا للهيمنة الغربية، وأداة دائمة لتفوق القوى الإمبريالية في قلب المنطقة العربية، وخصوصًا في المشرق. هذا الفهم لم يكن ناتجًا عن نظريات المؤامرة، بل عن معاينة معمّقة لبُنى الاستعمار الحديث وطريقة إعادة إنتاج السيطرة بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع مرور العقود وتبدّل التحالفات وتشابكها، ومع ما أفرزته اتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو وأبراهام، تراجعت هذه الرؤية، حتى كادت تُختزل في سردية تبسيطية ترى أن 'أمريكا تحمي إسرائيل”، وكأن العلاقة علاقة حليف ضعيف يُسترضى لا ذراع ضارب يُستخدم. لكن ما جرى في الأيام الأخيرة، في سياق التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، جدّد الوعي بجوهر المعادلة، وأعاد إلى الواجهة حقيقةً أساسية كثيرًا ما طُمست: إسرائيل لا تتحرك بدافع 'حقها في الدفاع عن النفس” فحسب، بل تنفّذ مهام وظيفية تخدم مصالح الإمبراطورية الأمريكية، وغالبًا ما تتقدّم على رأس جدول أعمالها العسكري.
فقد اتضح أن الضربة الإسرائيلية لإيران لم تكن مفاجِئة ولا عفوية، بل جاءت في سياق هندسة استراتيجية جرى الإعداد لها على مدى أسابيع، بل أشهر، من خلال تبادل أدوار دقيق بين واشنطن وتل أبيب، فقد تصاعدت نبرة التهديد الإسرائيلي بشكل متزايد في الإعلام وفي التصريحات الرسمية، بينما حرصت واشنطن على أن تبدو حريصة على 'التهدئة” و”الحل الدبلوماسي”، مقدمة نفسها طرفًا متوازنًا يسعى لتجنيب المنطقة ويلات الحرب.
لكن اللحظة الحاسمة جاءت عندما قررت إسرائيل، فجأة، تنفيذ ضربات مركزة ضد أهداف إيرانية نوعية. ورغم أن الضربة بدت إسرائيلية من حيث التنفيذ، فإن توقيتها ومداها وسياقها السياسي كشفت عن بصمة أمريكية واضحة. وجاء بيان واشنطن في أعقاب الهجوم مباشرة، ليدعو طهران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات 'دون شروط مسبقة”. بدا المشهد حينها وكأنه تطبيقٌ حَرفي لمعادلة الضغط القصوى: التهديد، فالضربة، فالدعوة للحل، تحت الإكراه.
ما يدعم هذا التحليل، ويقطع الشك باليقين، هو ما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مقابلة مع وول ستريت جورنال بتاريخ 13 يونيو 2025، حين كشف صراحة أن بلاده منحت إيران مهلة 60 يومًا للتوصل إلى اتفاق، وأن اليوم 61 شهد تنفيذ الضربة. قال ترامب حرفيًا:
'أبلغت الطرف الآخر، وقلت لهم: لديكم ستون يوماً لإبرام الاتفاق. وفي اليوم الواحد والستين، شنّوا الهجوم. واليوم فعلاً هو اليوم 61، وقد كان هجومًا ناجحًا جداً.”
وفي تصريح موازٍ، أضاف:
'كنا نعرف كل شيء… أعطينا إيران مهلة 60 يوماً، واليوم هو اليوم 61، كنا نعرف كل شيء.”
هذه التصريحات لا تحتمل التأويل، وتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الضربة لم تكن قرارًا إسرائيليًا منفردًا، بل تنفيذًا دقيقًا لتوقيت أميركي مرسوم سلفًا، في إطار خطة ضغط منظمة. إسرائيل في هذا المشهد لم تكن إلا أداة، أُطلقت يدها في التنفيذ ضمن هوامش محددة بدقة، لتحقيق هدف أمريكي مركزي: دفع إيران إلى التفاوض من موقع ضعف، تحت وقع الضربات.
المعادلة إذن ليست جديدة، لكنها عادت لتتجلى بوضوح نادر: إسرائيل تؤدي وظيفة، والدور الذي تلعبه ليس طارئًا ولا عارضًا، بل تأسيسي في منطق وجودها. هي الذراع القتالية المتقدمة عندما لا تكفي لغة الدبلوماسية، وهي الأداة العسكرية حين تتطلب مصالح المركز الإمبريالي الأميركي تغيير ميزان القوى بالقوة.
هذا الفهم يعيد تموضع إسرائيل في الوعي السياسي العربي والعالمي، لا باعتبارها فاعلًا مستقلًا بل كيانًا وظيفيًا ضمن مشروع هيمنة أكبر. حين تتعثر السياسة، يُستدعى الذراع، وحين ينجز المهمة، يُعاد استخدام خطاب التسوية. الدور موزّع، والقيادة في واشنطن، لا في تل أبيب.
من هنا، فإن أي تحليل للصراع الإيراني–الإسرائيلي خارج هذا الإطار يغدو قاصرًا. ما يجري ليس نزاعًا ثنائيًا بين خصمين إقليميين، بل جزء من بنية ضغط دولية تقودها واشنطن، وتنفذها إسرائيل، التي – كما وُلدت – لا تزال حتى اليوم: شرطي الهيمنة، وسيفها المسلول.