توريث ثقافة الجهل

كان يعمل في إحدى قطاعات البترول والطاقة، عاد إلى قريته ومسقط رأسه بعد أن بلغ السبعين من العمر ليُكمل باقي حياته في القرية، استيقظ في الصباح الباكر مرتدياً الزي الرياضي يطوف بالشوارع يمشي مرة ويركض أخرى، قابل أناساً يعرفهم منذ صغره، أصبح حديث الناس بعدما وصفوه بكل قبيح في مجالسهم؛ كان قبل إحالته للتقاعد يعمل مع جنسيات أجنبية، اعتاد على النهوض مبكراً لممارسة رياضة الجري مع أقرانه في العمل، تطبَّع بطبعهم خلال مسيرته المهنية التي قاربت 40 عاماً، لم يخطر بباله يوماً عندما عاد للقرية وارتدى الزي لممارسة الرياضة أنه سوف يوصف بالخبل أو الجنون، حدث هذا عندما توافد الزوار من كل أنحاء قريته يعودونه ويدعون له بالشفاء ظناً منهم أنه قد أصيب بالهوس والجنون، هذه القصة حقيقة واقعه كما وصف هو بنفسه بعد أن عاد أدراجه من حيث أتى ليُكمل باقي حياته بعيداً عن مسقط رأسه.

هجران القرى والأرياف له أسبابه، إمَّا بالسعي في طلب الرزق والمعيشة، أو الهجرة في طلب العلم، أو البحث عن جودة الحياة في المدينة؛ فالحواضر والمدن تتوفر بها تلك المقومات، تكثر بها الفرص الاستثمارية والوظيفية، معظم سكان المدن مشغولون بأعمالهم، لا يوجد لديهم الوقت الكافي للدخول في مشكلات مع غيرهم، لا يتعارفون غالباً رغم مجاورة بعضهم لاختلاف مواطنهم وبيئاتهم، أكسبتهم الحياة في المدن الوعي الكافي والتفرغ لشؤونهم بعيداً عن مراقبة الناس، أو تتبع أخبارهم، أو البحث عن عثراتهم، أو النيل منهم، أو محاولة إيذائهم.

ولكون الشيء بالشيء يذكر فإن الثقافة السائدة في القرى والأرياف لسكانها هي الثقافة الموروثة، لا يوجد أثر للمكانة العلمية، ولا للعمر الزمني، يستوي فيها من يمتلك ثقافة علمية مع الأمي غير المتعلم؛ فتوريث ثقافة الجهل جزء من العادات والتقاليد التي نشأت عليها الأجيال، انتقلت من الآباء الأميين إلى الأبناء المتعلمين الذين ينهجون ذات النهج مع أفراد القبيلة أو حتى الجماعة، يوالون من والاهم، ويعادون من عاداهم، هذا السلوك من آثار الجاهلية التي وردت في أبيات شعرية للشاعر الجاهلي دريد بن الصلت وهو يرثي أخاه الذي قتل في إحدى الغزوات بقوله:

أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى ..... فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ

فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى .......غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ

ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ ...... غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ

لا يوجد بالقرى والهجر والأرياف شيئاً من مقومات الحياة، تضيق فيها سبل الرزق والمعيشة، يكثر فيها الحسد والبغضاء، وقد تبتلى فيها بجار السوء الذي ينغص عليك معيشتك، أو بالقريب الحاسد الذي يكدر عليك صفوك، لهذا استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلم من جار السوء في دار المقامة؛ أما القريب الحاسد فليس من سبيل للسلامة منه سوى بالهجر الجميل، وقد ورد عن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أنَّه كتب إلى عُمَّاله بقوله: 'مُرُوا الأقارِبَ أنْ يتزاوروا ولا يتجاوروا' وقد علق الغزالي رحمه الله على كلام عمر قائلاً أنَّ التجاور يورث التزاحم على الحقوق وربَّما يورث الوحشة وقطيعة الرحم، وفي وصية الإمام مالك للشافعي قوله 'لا تسكن الريف فيذهب علمك، من أراد العلا هجر القرى، فإن الحسد في الأرياف ميراث.

ختاماً: سكان القرى والأرياف منذ الأزل حتى اليوم تتفشى فيهم العصبية القبلية، فمن يخالف منهجهم يتعرض للتعزير والهجر والقطيعة، قد تكون تلك الطقوس تلاشت تدريجياً في بعض القرى والضواحي لعامل التحضر، أمَّا القرى والأرياف المعزولة فلا تزال هذه الظواهر السلبية سائدة حتى وقتنا الحاضر، فالفخر بالانتماء للقبيلة أو جماعة القرية أو العائلة في هذا العصر يُعد نوعاً من الجهل المذموم أو العصبية الممقوتة عُرفاً وشرعاً.