اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ١٩ تشرين الثاني ٢٠٢٥
لم يسبق أن أثار منصب وزارة العدل في تونس ما يثيره هذه الأيام من سخط، ولم يسبق أن أثار واقع القضاء والعدالة فيها ما يثيره هذه الأيام من استهجان، فما بالك إن التقى الأمران.
ليلى جفال وزيرة العدل، هذه القاضية السابقة المتحجبة، هي الوحيدة تقريبا التي لم تشملها التغييرات الوزارية الكثيرة التي يقوم بها الرئيس قيس سعيّد باستمرار. ككل وزراء تونس الحاليين لم يكن لهذه الوزيرة، التي حامت في السابق حولها وحول زوجها القاضي الكثير من الشبهات والاتهامات، أي علاقة بالإعلام، ولم يسبق أن شاهدها الناس تتحدث أو ترد على ما تقوله الأوساط المعارضة وكذلك الحقوقية، في الداخل والخارج، عن قضاء خاضع لإرادة الدولة ومسخّر بالكامل لمصلحته على حساب كل المعايير القانونية والإجراءات المعمول بها، كما لم يحدث حتى في أحلك فترات الاستبداد التي عرفتها تونس في عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي والذين امتدا معا لأكثر من نصف قرن.
لم يعرفها الناس إلا بملامح وجهها الصارمة والجامدة وهي تستمع لما يقوله قيس سعيّد كلما التقى بها أو حين تظهرها لقطات اجتماعات مجلس الوزراء والكل يستمع لرجل واحد يتحدث متشنجا كعادته دائما. لم يعرفها الناس إلا كذلك إلى أن استمعوا إليها أخيرا تتحدث أمام مجلس النواب، بل وتضحك أيضا. هذا الظهور، بعد طول صمت وغموض، دفع الصحافي التونسي المعارض زياد الهاني لأن يكتب أنه بعد مشاهدة الوزيرة وقف على أبعاد جديدة لمقولة سقراط «تكلّم حتّى أراك» وذلك حين رأى فيها «وضاعة دولة مستبدة تافهة، وحقارتها».
لم يكن هذا الرأي، على قسوته وحدته، الوحيد في هذا الاتجاه فقد ضجّت مواقع التواصل (الفضاء الوحيد المتبقي للتونسيين) بآراء كثيرة في التشهير بأقوال وتصرّفات الوزيرة أمام مجلس النواب، في ردّها قبل أيام قليلة على مداخلات عدد من أعضاء هذا المجلس لدى مناقشة ميزانية وزارتها للعام المقبل، والتي فاجأت الرأي العام بصراحتها في نقد واقع الحريات المتدهور باستمرار والقضاء الخاضع المدجّن. مردّ كل ذلك أن الوزيرة لم تترك شيئا ومعيبا إلا ودافعت عنه بكل ثقة لا تخلو من صلف وعزة بالإثم.
لم تر الوزيرة مشكلة في غياب مجلس أعلى للقضاء، لم تر حرجا في أنها هي من يعيّن القضاة عوضا عنه ويقرر تنقلاتهم من محكمة إلى أخرى ولحسابات سياسية مفضوحة، لم تر مشكلة في اكتظاظ السجون والعدد المهول من الموقوفين على ذمة قضايا فقد اعتبرت أن الحل هو في بناء سجون جديدة وتوسعة القديم منها، لم تر أي ظلم في القضايا المعروضة على المحاكم، منها دون حضور المتهمين ولا مرافعات محامين، فقد كرّرت بكل ثقة أن كل شيء «يتم بالقانون»، لم تر في ما قاله لها بعض النواب من أن لا أحد دائما في منصبه ما يستحق الاتعاظ. أما الفضيحة الكبرى فهو ما قالته عن المضربين عن الطعام من الموقوفين في ما يعرف بـ«قضية التآمر» وهم من قيادات بارزة في المعارضة من مشارب مختلفة ومن بينهم وزراء سابقون يحظون بكل الاحترام والتقدير. لم تتردد الوزيرة في أن تنكر تماما أن يكون أي من هؤلاء يشن حاليا إضرابا عن الطعام، بل وقالت إن الكل يأكل خلسة في زوايا مختلفة لم تستثن منها حتى المراحيض في إشارة ضمنية مع ضحكة صفراء مقيتة!!.
هذه التصريحات لم تثر فقط حفيظة السياسيين والحقوقيين بل إن ماهر عبّاسي، أحد الأطباء التونسيين في الخارج، أثار نقطة على غاية من الأهمية حيث كتب أنه حتى على افتراض أن ما قالته الوزيرة صحيح فإن أي وفاة لأي من المضربين عن الطعام، لا قدّر الله، لسبب أو لآخر سيحسب بالتأكيد على أنه بسبب هذا الإضراب عن الطعام، حقيقيا كان أم لا، مما سيجعل السلطة وقتها في وضع بالغ السوء مع أن «المسؤولية الحقيقية تفرض التواضع والحياد وقراءة العواقب قبل حدوثها وقراءة أسوأ العواقب والعمل من أجل تفاديها» مشيرا إلى أن ضحك الوزيرة المستفز يعتبر توقيعا على مسؤوليتها على «أي كارثة يمكن أن تحدث».
هذا الاستياء الواسع لتصريحات الوزيرة ليلى جفال، مع أنها ليست في النهاية سوى تعبير عن سياسة الرئيس ومسؤوليته كرأس للنظام، أقرّ هو بذلك أم نأى بنفسه كالعادة، حتى وإن تحمّلت هي شخصيا وزر ما تقوله وتفعله، والذي قد تحاسب عليه يوما ما، جعل الصحافي التونسي سفيان بن حميدة يختم مقالا له عن الحدث بالقول «في جمهورية ديمقراطية خروج وزيرة العدل بهذه الطريقة الكارثية كان سيكلّفها منصبها ويدفعها إلى تقديم اعتذارات علنية والاستقالة. في نظام رئاسي كان رئيس الدولة سيقيل وزيرته للعدل. في بلد تعمل فيه المؤسسات كما ينبغي كان البرلمان سيرفض التصويت على ميزانية وزارة العدل».
لكننا لسنا كذلك…
كاتب وإعلامي تونسي












































