قرار ترامب؛ يضع الإخوان في مواجهة لحظة مفصلية

رم - د.منذر الحوارات

نشأت حركة الإخوان المسلمين في سياق إقليمي ودولي شديد التعقيد، فقد أسهم انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقاسم تركتها، ونشوء الدول القُطرية العربية بالتزامن مع بدايات تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين، في صياغة المبادئ الأولى للحركة وتوجهاتها الفكرية والعملية، وتركت أثراً عميقاً في طريقة تفكير الإخوان، وفي رؤيتهم لطبيعة الدولة والمجتمع، وفي أسلوب عملهم، فغياب الخلافة وضع حجر الأساس لأيديولوجيتهم الأممية، بينما اتجه النظام الإقليمي لترسيخ الدولة الوطنية الحديثة، ما خلق تناقضاً بنيوياً بين تصور الحركة للكيان الإسلامي الجامع، وبين مسار الدول العربية نحو ترسيخ حدودها ومؤسساتها.

ومع نشوء «إسرائيل»، تراكم الشعور بالهزيمة في الوعي الجمعي العربي، ومعه تعززت أفكار الجماعة حول ضرورة استعادة «الأمة» ورفض الدول القُطرية، هذا كلّه أسبغ على الحركة طابعاً طهرياً طوباوياً، دفعها للتفكير في مسارات تتجاوز الواقع وإمكاناته، فعودة الخلافة لم تعد ممكنة، وإزالة إسرائيل ليست مسألة داخلية عربية بل نتاج نظام دولي معقد، وهكذا وجدت الجماعة نفسها في مواجهة مزدوجة: صدام مع الدولة العربية الحديثة، وصدام مع النظام الدولي القائم.

ورغم هذا التناقض الجوهري، استطاعت الحركة الاستمرار، لكنها بقيت أسيرة رؤيتها الأولى، لم تستطع الاندماج الكامل كفاعل سياسي محلي، ولم تتمكن من تحقيق مشروعها الأممي، فظلّ الشك المتبادل بينها وبين الدول هو القاعدة، هذا القلق الوجودي طبع سلوكها طوال قرن كامل، ورسّخ التفكير الأمني في بنيتها، على حساب التفكير السياسي الواقعي.

لكن الإقصاء السياسي لم يمنعها من التمدد الاجتماعي، فقد استفادت الجماعة من حضورها الدعوي والخيري، ومن قدرتها على الجمع بين المتلقي الفقير للمعونة والممول الثري، هذا الوجود الاجتماعي القوي ظهر بوضوح في الربيع العربي، عندما قادها النفوذ الاجتماعي لا السياسي لتصدر صناديق الاقتراع، حينها اكتشفت الجماعة الفجوة بين العمل الدعوي والعمل السياسي، ما أدخلها في ارتباك واضح وقلل من قدرتها على إدارة مكتسباتها.

وتزامناً مع توسع حضور الإخوان مجتمعياً، ارتفعت المخاوف العربية الرسمية من تحول هذا الحضور إلى نفوذ سياسي واسع، وعززت التجربة المصرية هذه المخاوف، وهو ما أدى إلى إعادة تقييم إقليمية واسعة، قادت إلى قرارات حاسمة في مصر بعد إقصاء نظام الإخوان، وكذلك في الخليج العربي، لوقف صعود الحركة وإقصائها واجتثاثها، ورغم ذلك لم تُجرِ الجماعة مراجعة فكرية تنزع بذور الشك بها، وتعيدها إلى سياق الدولة الوطنية؛ بل اتكأت على رهان خاطئ، هو سلوك إدارة باراك أوباما، التي أعطتها انطباعاً بوجود لحظة تاريخية مقبلة ستتجاوز فيها الدول العربية.

اعتمدت الحركة طويلاً على التعاطف الغربي معها في مواجهة الأنظمة العربية، ولم تنتج خطاباً قادراً على تطمين هذه الدول، أو استيعاب التحولات الإقليمية، كما في الأردن حيث استفادت الجماعة من هامش حافظ على مساحة سياسية واجتماعية مزدوجة للجماعة، وجعل وجودها جزءاً من المشهد السياسي، لكن كل ذلك تبدل بعد «الربيع العربي وطوفان الأقصى»، وازداد الطين بلة حينما بدأت الأصوات في الولايات المتحدة والغرب تصف الإخوان بأنهم «الجذر الفكري» للجماعات المتطرفة، ورغم أن هذا الخطاب ينطوي على مبالغة واضحة إذ خرج من رحم الجماعة أيضاً قيادات عارضتها واندمجت في النظم الرسمية إلا أن المزاج الغربي تغيّر.

ومع تغيّر المزاج، بدأت العقبات البيروقراطية في واشنطن تُذلل، فتح «طوفان الأقصى» الباب لنقاش واسع حول دور الحركة، مستنداً إلى ارتباط «حماس» فكرياً بالإخوان، وارتباط «الجهاد الإسلامي» بالفكر القطبي، ترافق ذلك مع ضغط إسرائيلي دفع بتجاه أن «شبكة الإخوان العالمية» وفرت دعماً لحماس عبر المال والتنظيم، وهذا كله مهد لصدور قرار ترامب الأخير.

استند القرار إلى فرضية «اتبع المال»، طلب ترامب من وزارة الخزانة والخارجية، إعداد ملف تصنيف يتعلق بثلاث دول: الأردن، ومصر، ولبنان، وهي التنظيمات الأقرب لفلسطين وبالتالي حماس، طبيعة المؤسسات المعنية والمدة الزمنية القصيرة تشير إلى أن القناعة السياسية متكوّنة، وأن القرار شبه محسوم، بانتظار هندسة آلية التنفيذ.

تداعيات القرار تختلف من دولة لأخرى، في مصر والخليج يبدو الأمر محسوماً، في لبنان أكثر تعقيداً بسبب الانقسام في داخل الحركة، لكن المشهد الأشد حساسية هو في الأردن، حيث كانت الجماعة، حتى وقت قريب، جزءاً من بنية الدولة، غير أن سوء تقدير الحركة خلال الربيع العربي، ثم مواقفها بعد طوفان الأقصى، أدى إلى اتساع الفجوة بينها وبين الدولة، بالتالي فإن القرار الأميركي قد يطال أفراداً مرتبطين بالحركة، وربما أعضاء منتمين لجبهة العمل الإسلامي، الحزب الممثل بقوة في البرلمان الأردني، وهو ما قد يضع الأردن أمام معادلة دقيقة مع حليفه الدولي الأهم، ما يعني ان التعامل مع القرار بخفة سيحمل مخاطر كبيرة، لأن ما يجري ليس لحظة عابرة، بل تحولاً إستراتيجياً في العقل السياسي الغربي تجاه الحركة.

الخلاصة أن الإخوان أمام لحظة مفصلية تشبه إلى حد كبير لحظة نشأتهم قبل قرن، العودة إلى الدولة واحترام قوانينها والتصالح مع النظام الدولي لم يعد خياراً سياسياً فحسب، بل شرطاً وجودياً، وإن لم تُقدم الجماعة على مراجعة فكرية عميقة تضعها في سياق الدولة الوطنية، فإن مستقبلها سيظل موضع سؤال مفتوح وكبير.