"تذويت المعرفة": ركيزة إصلاح التعليم وتحقيق التنمية المستدامة في الأردن #عاجل

'تذويت المعرفة': ركيزة إصلاح التعليم وتحقيق التنمية المستدامة في الأردن #عاجل

كتب اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني -

يمرّ التعليم في الأردن -مدرسياً وجامعياً- بمرحلة تتطلب مراجعة جوهرية، بعد عقود ارتكز فيها التعلم على نقل المعلومات وتكديسها في أذهان الطلبة. ومع دخول العالم عصر الاقتصاد المعرفي، لم يعد هذا النهج كافياً لإعداد جيل قادر على الابتكار والمنافسة. لذلك يبرز اليوم مفهوم 'تذويت المعرفة' بوصفه أحد أهم المفاتيح لإصلاح التعليم وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما فيها جودة التعليم، والنمو الاقتصادي، وتمكين الإنسان، وبناء مجتمع المعرفة.

ما هو تذويت المعرفة؟ من المعلومة إلى الهوية

يستند هذا المفهوم إلى الفعل 'ذوّت'، أي جعل الشيء جزءاً من الذات، وهو ما يعني تربوياً تحويل المعرفة من معلومة محفوظة إلى خبرة إنسانية مُعاشة ترتبط بالقيم والوجدان، وتنعكس في طريقة تفكير الفرد وسلوكه. إنها عملية يصبح فيها التعلم جزءاً من الهوية، ويغدو الطالب قادراً على تحويل ما يتعلمه إلى مهارة وممارسة وقدرة على اتخاذ القرار والإبداع.

كيف يتحقق التذويت؟ نحو مدرسة وجامعة وبرامج تدريب ومؤتمرات علمية تُنتج الإنسان لا المعلومات فقط

تحقيق التذويت المعرفي يتطلب تحولاً في الفلسفة التعليمية والممارسة الصفّية والجامعية والبرامج التدريبية والمؤتمرات العلمية.

في المدارس، يعني هذا التحول الانتقال من الحفظ والتلقين إلى التعلم النشط: العمل التعاوني، المشروعات، التجارب العملية، التأمل الذاتي، وربط المعرفة بحياة الطالب اليومية.

وفي الجامعات، تُعد المشروعات البحثية، والتعلم القائم على المشكلات، والتطبيقات الميدانية، أدوات رئيسية لربط المعرفة بالواقع الاقتصادي والاجتماعي.

وتشكّل برامج التدريب والمؤتمرات العلمية أدوات فعّالة لتذويت المعرفة، إذ يجب ان تتيح للمشاركين الانتقال من تلقي المعلومات إلى اختبارها وتطبيقها عبر نقاشات عملية وخبرات مباشرة، مما يجعل المعرفة جزءاً من الممارسة اليومية والهوية المهنية. كما يجب ان تُسهم هذه الفعاليات في بناء شبكات تعاون وتعلم مستمر، وتعزيز الابتكار، ورفع كفاءة رأس المال البشري، ووضع حلول عملية مبتكرة للمشكلات والقضايا التي تواجه المجتمع الأردني. وبذلك تصبح هذه النشاطات المعرفية رافعة مباشرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الأردن خاصة فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي والجاهزية المهنية للشباب.

أما في البعد الرقمي، فيجب أن يتجاوز التعليم مجرد استخدام الأجهزة والمنصات إلى تحويل المعرفة الرقمية إلى حكمة رقمية، تعزز النزاهة والابتكار والأمان الرقمي، وتجعل التكنولوجيا وسيلة للنمو وليس للترفيه والاستهلاك فقط.

تذويت المعرفة والتنمية المستدامة: علاقة مباشرة لا يمكن فصلها

لا يمكن الحديث عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة في الأردن—كما وردت في رؤية التحديث الاقتصادي وتحديث القطاع العام—من دون الاستثمار في تذويت المعرفة.

فالهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة (التعليم الجيد) لا يكتمل إلا ببناء نظام تعليمي يرتكز على الفهم، والمهارات، والقيم، وليس على الحفظ المؤقت.

كما يسهم تذويت المعرفة بصورة مباشرة في تمكين الشباب (الهدف 8: العمل اللائق والنمو الاقتصادي)، وتطوير قوى بشرية قادرة على الابتكار وريادة الأعمال (الهدف 9: الصناعة والابتكار)، وبناء مدن ومجتمعات محلية مستدامة (الهدف 11)، وتعزيز المشاركة المجتمعية (الهدف 16: بناء مؤسسات قوية).

وبما أن الأردن يعتمد على موارده البشرية كأهم ثروة وطنية، فإن تذويت المعرفة يوفّر قاعدة متينة لبناء اقتصاد معرفي قادر على خلق فرص عمل وتوليد قيمة مضافة حقيقية.

فوائد التذويت: من مهارات فردية إلى نهضة وطنية

يسهم تذويت المعرفة في:

-تحويل البيانات إلى حكمة وقدرة على اتخاذ القرار.

-بناء كفاءات مهنية راسخة وقادرة على التطور المستمر.

-تعزيز الإبداع والابتكار في التعليم والصحة والهندسة ومجالات الإعاقة وسائر القطاعات الحيوية.

-ترسيخ قيم المواطنة، والالتزام، والعمل المنتج، وهي عناصر لا غنى عنها لتحقيق التنمية المستدامة.

-دعم بناء مجتمع معرفة متماسك، قائم على التعلم مدى الحياة.

-نشر المعرفة وتوظيفها من أجل التنمية والعدالة.

خاتمة: نحو تعليم يغيّر الإنسان… ويقود الدولة إلى مستقبلها

إن الانتقال من 'نقل المعلومات' إلى 'تذويت المعرفة' ليس مجرد إصلاح تربوي، بل مشروع وطني متكامل ينسجم مع طموحات الأردن في التحديث والتنمية المستدامة. فالتعليم الحقيقي هو الذي يجعل المعرفة جزءاً من شخصية الفرد وقدراته، ويحوّلها إلى أدوات تعزز الإنتاجية والابتكار والمواطنة الفاعلة.

وبذلك يصبح سؤال المرحلة المقبلة:

ليس ماذا يتعلم الطالب او المتدرب؟ بل ماذا يصبح الإنسان وماذا يقدم بعد أن يتعلم؟

وعلى هذا السؤال تُبنى أجيال، وتنهض الأمم، وتُحقق التنمية المستدامة التي يسعى الأردن إليها بثبات وثقة.