اخبار الاردن
موقع كل يوم -وكالة رم للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
رم - مهدي مبارك عبد الله
الخيانة تنشأ دائما من اعطاء الثقة المفرطة ومن ضيع الأمانة ورضي بالخيانة فقد تبرأ من الديانة ... كان اسما لامعا وشخصيةموثوقة وصاحب حضور عاطفي متميز في الوسط التنظيمي داخل هياكل حزب الله وبين المثقفين والمواطنين في الجنوب اللبنانيعرفه كل ابناء الطائفة الشيعية بصوته الشجي العذب عندما كان يصدح بأناشيده الحزينة في قاعات العزاء ومواكب التشييع وهويردد ( بغضب شديد الموت لأمريكا والموت لإسرائيل نموت واقفين ولا نبيع الارض كلنا مشاريع شهادة ) فضلا عن كلماته المعبرةوالمؤثرة عن الموت والصبر والشهادة واللحمة الدينية الشيعية والانتقام من اليهود لقد كان ( قديس داخل المقاومة ) اذ تم اختيارهبعناية فائقة من حيث الولاء والكفاءة .
هو المنشد الديني الشيعي ( محمد الهادي صالح ) المقرب جدا من قيادات وعناصر حزب الله حيث كان يتحرك بحرية تامة بينالمقرات والقواعد ويتواصل مع اكبر الوجوه القيادية والكوادر التنظيمية بدون اذن مسبق لكنه في الخفاء كان ( عميل يبيع الاسرارويذبح الرفاق ) والحقيقة انه ليس بالغريب ان ينكشف جاسوس جديد داخل حزب الله لكن الامر الصادم ان يكون هذا الجاسوسمنشدهم واحد الاصوات التي رافقتهم في وداع موتاهم وهو يبكي بحرقة ويبكيهم بألم كان ( يقتل القتيل ويمشي في جنازته ) كما كانيحثهم على مزيد من اللطم والاستعداد للمرحلة المقبلة هنا كانت الطامة الكبرى حين وضف ( الصوت الحسيني ) غطاءً استخباراتيًالأجرام العدو .
في الربع الاول من ايار الحالي 2025 القي القبض على صالح بعد شكوى مقدمة من شريك له يتهمه بالاحتيال المالي بالإضافة الىورود بلاغ للشرطة اللبنانية بحقه من أحد السماسرة بعدما شك في تعاملاته بالضلوع في عمليات غسيل أموال عن طريق تحويلالعملات المشفرة ( بيتكوين ) الى عملة سائلة وبناء على ذلك تم التحقيق معه في هذه التهم ( تحديدا ) إلا أنه وبعد تفتيش هاتفهالشخصي كشف عن وجود تحويلات ماليه ورسائل واتصالات ومعلومات تشير إلى تواصله مع أطراف استخباراتية إسرائيلية حيثجرى تحويل ملفه الى المحكمة العسكرية والتي اتهمته رسميًا بالتعاون مع العدو الإسرائيلي والتواطؤ في أعمال تسببت في مقتلمواطنين لبنانيين منهم قيادات بارزة في حزب الله.
وقد اعترف خلال التحقيق معه انه كان يقدم معلومات للموساد وادعى ان قيادة حزب الله كانت على علم مسبق بذلك وانه كان (عميل مزدوج ) وانه لم يجند بالإكراه أو الابتزاز بل بادر بنفسه إلى التواصل مع جهاز الموساد الإسرائيلي أواخر عام 2024 عبرقنوات إلكترونية مشفّرة وانه كان يستلم الأموال من جهاز الموساد الاسرائيلي عبر طريقة تعرف بـ ( البريد الميت ) وهي وسيلةتقنية تقليدية شائعة لدى أجهزة الاستخبارات لتبادل المعلومات والمال دون اي تواصل مباشر بين العميل والمشغل لتفادي الملاحقة
بالتقصي الامني الدقيق حول المنشد الجاسوس تبين انه كان يعاني من ضائقة مالية شديدة مما دفعه إلى قبول عرض من جهات تابعةللموساد الاسرائيلي مقابل تزويدها بمعلومات استخباراتية عن شخصيات معينة في الحزب وعن الدراجات النارية التي يستخدمهاالمقاتلين وكيفية التنقل فيها بالإضافة الى صور لمنشآت حساسة منها مقار ومساجد وحسينيات ومراكز وتقديم احداثيات دقيقة لمواقعتابعة لحزب الله لقاء مبالغ مالية تسلمها على دفعات وصلت الى 23 ألف دولار أمريكي ( المال يكشف عن الأسرار ).
لقد ساهمت المعلومات التي وفّرها العميل صالح لاحقا في تنفيذ عدة عمليات اسرائيلية دقيقة استهدفت مواقع لحزب الله وادت الىمقتل عدد كبير من اللبنانيين بينهم عناصر بارزة في الحزب بما في ذلك غارات 9 أيار الماضي على النبطية وهي الأشد منذ تشرينالثاني الماضي مع هجوم مطلع نيسان الذي أسفر عن مقتل قائد بارز في حزب الله يدعى ( حسن بدير وابنه علي ) بالضاحيةالجنوبية لبيروت .
وكذلك تم اغتيال ما لا يقل عن 35 شخصية من الصف الأول في الحزب بينهم القياديان فؤاد شكر وإبراهيم عقيل واستهدافمنظومة الاتصالات من نوع البيجر واجهزت الهواتف اللاسلكية توك توك في أيلول 2024 ما أدى إلى مقتل 9 أفراد من الفرقالتقنية وإصابة ما يزيد عن 2800 آخرين معظمهم من وحدات الدعم اللوجستي والإعلامي في الحزب وهو ما هز الثقة بالبنيةالسيبرانية للحزب وأظهر هشاشة منظومة اتصالاته المغلقة .
من بين التفاصيل الاخرى المثيرة في قضية صالح التي وصفت من بعض اللبنانيين الجنوبين بانها ( خيانة بطعم الدم ) ان الجاسوسابن مقاتل قديم في قوة الرضوان الوحدة النخبوية في حزب الله وشقيقه كان عضو سابق في الحزب قُتل خلال مشاركته في احدىالمعارك ما يضيف بعدًا شخصيًا معقدًا للقضية ويجعلها أكثر إثارة للجدل .
الجاسوس صالح بتقاطعات سرية ونشاطات سريعة تحول الى خنجر مسموم في ظهر حزب الله حيث سلّم الموساد الاسرائيلي معطيات امنية هامة شملت خرائط مراكز قيادية وتفاصيل اجتماعات وتحركات شخصيات بارزة إضافة إلى معلومات حساسةحول أنظمة الاتصالات الداخلية في حزب الله والمؤكد انه لم يكن يعمل لوحده وهنالك شبكة تجسس اكبر قادها بينهم امرأة لبنانيةوشخص اخر تم القبض عليهما بالإضافة الى شخص ثالث هرب الى منطقة اربيل في العراق.
في الواقع هذه ليست اول حالة تجسس تكتشف داخل حزب الله حيث تم تفكيك العديد من الشبكات عبر السنوات المنصرمة من بينهاخلية تكونت من 13 شخص كانوا يعملون في قلب الضاحية الجنوبية وهنالك اكثر من 15عملية تجسس اخرى اكتشفت من قبلاجهزة الحزب الامنية من بينها قضية الجاسوس ( محمد شوربة ) من النبطية الذي شغل منصب نائب مسؤول وحدة 910 ومسؤولأمن الأمين العام سابقا ورئيس فرع بجهاز العمليات الخارجية التابع لحزب الله حيث تم تجنيده عام 2007 والقي القبض عليه 2014 وهنالك عميل اخر لم يذكر اسمه كان يعمل ممرض في مستشفى الرسول الأعظم تم تجنيده في بداية ربيع 2023 مقابل 4500 دولار عبر حساب وهمي على فيسبوك لشخص باسم ( توم ) ادعى انه يمثل جمعية خيرية عرف لاحقًا بأنه ضابط في الموساد الاسرائيلي وقبله تم تجنيد حمزة السبلاني مسؤول وحدة الأمكنة المكلف بإدارة مواقع القيادات ومراكز الحزب السرية والذي اختفى بعد انكشاف أمره
كما جند الموساد في وقت سابق ضابط في الجيش اللبناني عمل ضمن جهاز المخابرات يدعى وليد نقوزي من صيدا حيث تمكن من اختراق معظم معاقل حزب الله في لبنان ولا ننسى هنا أن إسرائيل حصلت على معلومات حساسة من خلال عميل إيراني كان يعمل في الضاحية الجنوبية لبيروت حول مكان وجود الأمين العام لحزب الله قبيل اغتياله حيث تمكن من اختراق الدائرة الداخلية لحزب الله وإيصال معلومات دقيقة حول تحركاته وهنالك عشرات الجواسيس الذين عملوا داخل حزب الله في مواقع مختلفة لا يتسع المقال لذكرهم .
السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا يقع حزب الله دائما في نفس الحفرة ويسقط في ذات الفخ هل هو بسبب الثقة الزائدة ببعض قياداته وكوادره ام ان جهازه الامني كان غير قادر فعلا على مواجهة طرق التجسس الحديثة والفائقة التطور التي يعمل بها جهاز الموساد الاسرائيلي وهل فشل الحزب في بناء شبكة أمنية مغلقة تقوم على الثقة والانضباط الحزبي والولاء العقائدي.
بعد حرب تموز 2006 ومرارة الهزيمة وقسوة المواجهة أعاد جهاز الموساد تقييم نهجه الاستخباراتي تجاه حزب الله مع التركيز على تحسين جمع البيانات ودقة العمليات حيث تم تجنيد أفراد يشغلون مناصب حيوية في جهود إعادة بناء هيكل الحزب بعد نهاية الحرب حيث قدموا معلومات مهمة عن منشآت الحزب السرية ومخابئ الأسلحة وتحركات القيادة واعدوا انفسهم جيدا لزرع أجهزة تنصت في مخابئ الحزب وتتبع اجتماعاته السرية حيث كان لدى الموساد اطلاع شبه دائم على تحركات جميع القادة في الحزب بما في ذلك الأمين العام حسن نصر الله الذي اغتيل في أيلول 2024
بعد تنامي قوة حزب الله ونشر قواته في سوريا في عام 2012 لمساعدة نظام الأسد خرج بعض كبار القادة من الظل والخفاء الى العلن ومع استمرار ضعف آليات الرقابة الداخلية والتوسع في تجنيد عناصر جديدة وبناء علاقات مفتوحة مع القوات السورية والايرانية والروسية التي كانت تخضع على مدار الساعة لمراقبة اجهزت الاستخبارات الامريكية والاسرائيلية
هنا أتيحت الفرصة الذهبية للموساد لفتح الباب للتسلل الاستخباراتي على مستوى كبير للحصول على معلومات امنية ذات جودة عالية حيث بدأ الموساد اختراقاته الناعمة التي استهدفت بنية حزب الله الاجتماعية من الداخل واستغلالها في بناء بنك معلومات دقيق يسمح بتنفيذ عمليات فعالة لا تكلف إسرائيل أكثر من ( رسالة مشفّرة وتحويل مالي ) وقد ساهم هذا الواقع و الانكشاف الامني في اغتيالات نوعية لقادة عسكريين في سوريا ولبنان من مصطفى بدر الدين إلى حسان اللقيس في عمليات نسب بعضها لاحقاً إلى عملاء جرى تجنيدهم في سوريا .
ان التركيز الموسع للموساد على حزب الله كان مصحوبًا دائما بميزة تقنية متنامية التطور تجسدت في أقمار التجسس والطائرات بدون طيار المتطورة وقدرات القرصنة الإلكترونية الهائلة التي حولت الهواتف المحمولة بيد القيادات والعناصر إلى أجهزة تنصت مرئي ومسموع وهو ما وفر لإسرائيل الامكانات الضخمة إلى الحد الذي جعل طائراتها الحربية تحاول في الأيام الثلاثة الأولى من حملتها الجوية على لبنان تدمير ما لا يقل عن 3 آلاف هدف مشتبه به لحزب الله
بعد الضربات القاسية التي تلقاها حزب الله والتي شملت غارات جوية مكثفة وهجمات إلكترونية متطورة زعزعت أمنه الداخلي بدأ يبحث عن الثغرات والجواسيس داخل صفوفه ومع زيادة حجم الاختراقات الأخيرة التي طالت حزب الله ظهر خللاً بنيوياً في منظومة الرقابة الداخلية للحزب خصوصاً في ظل التوسع الكبير في المهمات والانتشار الجغرافي من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن وتورطه في صراعات إقليمية متعددة حيث تحول الامر الى تهديد استراتيجي داخلي يمس صلب البنية العقائدية والتنظيمية للحزب
في السياق ذاته نرى وبعد قرابة شهر على كشف الجاسوس صالح ان حزب الله والقضاء اللبناني لا زالا يلوذان بالصمت ويتحركان ببطء رغم ان القضية ذات حساسية كبيرة في المشهد الأمني اللبناني خاصة في ظل التصاعد الأخير للتوترات الإقليمية وتزايد المخاوف من اختراقات أمنية اخرى قد تؤثر على كثير من التنظيمات والجماعات المسلحة ومجتمعاتها المحيطة في لبنان
ختاماً نؤكد ان الملف الأخطر اليوم أمام حزب الله ليس مواجهة إسرائيل بل تطهير الداخل وأن الانتصار في الميدان لا يعوض الخسارة في أجهزة القيادة وعناصر القرار ولا ان نعلم بان البيئة الاجتماعية للحزب ليست محصنة كما يصور وان توسع رقعة الفقر والبطالة والفساد والانفتاح على شبكات الاتصال العالمية وفرت بيئة خصبة لاختراقات الموساد النوعية والمدمرة ولا زلنا ايضا نتسأل بارتياب كم من ( محمد هادي صالح ) بقي يتحرك في الظل والعتمة داخل الحزب وفي الجنوب حيث ( يعمل بوجه بشوش ويتحدث بلهجة مريحة ويتواصل بإطلالة بهية ) وهو فعلا جاسوس حقير وخطير ورغم كل هذا سيبقى الخونة والمتآمرين ألد أعداء الوطن والدين ومعاول هدم وتدمير وهذه حقيقة مشهودة وليست مجرد رأي عابر
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]