اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٩ تشرين الأول ٢٠٢٥
تُثمن وزارة الأوقاف الدور الوطني والإنساني الذي قامت به القيادة المصرية في إتمام اتفاقية السلام الخاصة بقطاع غزة، مؤكدة أن هذا الاتفاق يُعد انتصارًا للحكمة المصرية الراسخة، وتجسيدًا لرؤية القيادة السياسية في ترسيخ قيم السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة.
وقالت وزارة الاوقاف في بيان لها اليوم، بعد أكثر من عامين من الدمار الذي شهده قطاع غزة، تطل علينا بشائر اتفاقية سلام تاريخية، هذا السلام ليس مجرد توقيع على وثيقة، بل هو مشروع حضاري أصيل، جاءت به الشرائع السماوية، وتطلعت إليه الإنسانية عبر العصور، إنه انتصار لإرادة الحياة على ثقافة الموت، وتجسيد للحكمة الربانية التي أرادت للبشر أن يعمروا الأرض لا أن يدمروها.
المشروعية الدينية للسلام من ثوابت الأديان
بينما تحاول بعض الأصوات تشويه مفهوم السلام في الإسلام ووصفه بتنازلٍ أو ضعف، تنهض النصوص الشرعية لتروي قصةً أخرى؛ قصة تأسيسٍ لمشروعية السلام كقيمةٍ عليا في بناء الأمم وتحقيق المصالح. فالإسلام الذي جاء رحمةً للعالمين، لم يغفل عن تأصيل هذه القيمة في نصوصه المؤسسة، بل جعلها منهجاً لإقامة العدل ودرء المفاسد.
ففي القرآن الكريم، يأمر الله تعالى المؤمنين بالسلام بأبلغ صيغة للعموم والشمول، ويوجب الاستجابة لنداء السلام حين يطلقه الطرف الآخر: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} [الأنفال: ٦١] . وهذا ما أشار إليه الإمام القرطبي بقوله: 'إن مالوا- يعني الذين نبذ إليهم عهدهم- إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها، هذا أمر من الله تعالى لنبيه والمؤمنين بأن يقبلوا الصلح إذا جنح إليه العدو' [الجامع لأحكام القرآن، ج٨، ص ٣٩].
قال القاضي ابن العربي: 'وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه'. [أحكام القرآن لابن العربي، ج٢، ص ٤٢٧].
ويؤكد هذا المعنى ما جاء في تفسير ابن كثير: '{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ} أَيْ: مَالُوا {لِلسَّلۡمِ} أَيْ: الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، {فَٱجۡنَحۡ لَهَا} أَيْ: فَمِلْ إِلَيْهَا وَاقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ، عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ، وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِسْعَ سِنِينَ، أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَرَطُوا مِنَ الشُّرُوطِ الْأُخَرِ' [تفسير ابن كثير: ج٤، ص٧٤].
ولم تكن السنة النبوية بمعزلٍ عن هذه القيمة الانسانية والشرعية، بل قدمت أروع النماذج التطبيقية عبر صلح الحديبية، الذي مثل نقلةً استراتيجية في فهم السلام كخيارٍ استباقي وليس ردّة فعل. فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن بنود الصلح: «وَاللهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا» [مسند أحمد - ٣١/٢١٣].
ولم يكن هذا الصلح مجرد اتفاقيةٍ سياسية، بل كان حدثاً استثنائياً نزل القرآن مؤيداً له: {إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} [الفتح: ١] .
ولا ينفرد الإسلام بإعلاء قيم السلام بين البشرية، فالرسالات السماوية تتشارك في التأكيد على قيمة السلام كأساسٍ للتعايش.
ففي الرسالة المسيحية، يعلن الإنجيل: 'طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون' [إنجيل متى ٥: ٩]، ويؤكد القديس بولس: 'إنْ كَانَ مُمكنًا فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ' [رسالة رومية ١٢: ١٨].
وفي الرسالة اليهودية، تنص التوراة على السعي الحثيث نحو السلام: 'اطلبوا السلام واسعوا وراءه' [سفر المزامير ٣٤: ١٤]، وتؤكد التعاليم اليهودية أن 'السلام العظيم هو أساس العالم' [التلمود البابلي].
هذه المعاني كلها سبق وبينها الرئيس الراحل بطل الحرب والسلام محمد أنور السادات في زيارته التاريخية للقدس : 'لقد جئت إليكم اليوم على قَدَمَيْن ثابتَتَيْن، لكي نبني حياة جديدة، ولكي نُقِيم السلام. وكلنا على هذه الأرض، أرض الله، كلنا (مسلمون ومسيحيون ويهود) كلنا نعبد الله، ولا نشرك به أحداً، وتعاليم الله ووصاياه، هي حب وصدق وطهارة وسلام'. [السادات: خطاب الكنيست، بتاريخ ٢٠ نوفمبر ١٩٧٧].
فوجود هذا التوافق بين الرسالات السماوية يؤكد أن السلام ليس خياراً ثانويًّا، بل هو قيمةٌ أصيلة وغاية سامية في الشرائع السماوية، وجزءٌ لا يتجزأ من رسالتها الإنسانية، إنه الجسر الذي تعبر عليه الأمم من ظلمات الصراع إلى نور التعايش، ومن قاع الصراع والتناحر إلى قمم المجد والتعاون.
السلام والتحول من دموية الصراع إلى آمال المستقبل
في اللحظة التاريخية التي تنتقل فيها العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية من ساحة المعركة إلى طاولة المفاوضات، بوساطة مصرية جريئة، ندرك أننا أمام نموذج فريد للسلام الذي لا يشبه أي اتفاقية سابقة. إنه ليس سلام المستسلمين، بل سلام الحكماء الذين أدركوا أن مستقبل أبنائهم أهم من انتصارات الماضي.
فلقد حوّلت الوساطة المصرية طاقات الصراع الهائلة إلى طاقات بناء، حيث أصبحت الموارد التي كانت تُنفق على الحرب تُوجّه الآن نحو إعادة إعمار غزة، وبناء المؤسسات، وخلق فرص العمل. هذا التحول ليس هزيمة، بل هو انتصار للإرادة الإنسانية على منطق الدمار.
فالآن يأتي السلام كتحول استراتيجي من منطق القوة إلى قوة المنطق، من منطق القوة العسكرية إلى قوة المنطق الإنساني، فالقرار المصري بقيادة سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي بالوساطة لم يكن تنازلاً عن الحقوق، بل كان ارتقاءً بآليات تحقيقها، إنه الانتقال من ثقافة 'الموت في سبيل القضية' إلى ثقافة 'الحياة من أجل تحقيق القضية'.
يقول الرئيس الراحل أنور السادات في خطاب الكنيست التاريخي ١٩٧٧: 'لقد جئت إليكم اليوم على قواعد متينة من قواعد الحق، لا على قواعد استعراض القوة الغالبة، إنّ الروح التي تزهق في الحرب، هي روح إنسان، إنَّ الأطفال الأبرياء الذين يفقدون رعاية الآباء وعطفهم، هم أطفالنا جميعاً، لهم علينا المسؤولية الكبرى في أن نوفر لهم الحاضر الهانئ، والغد الجميل. من أجل كل هذا، ومن أجل أن نحمي حياة أبنائنا وأخواتنا جميعاً، من أجل أن تنتج مجتمعاتنا وهي آمنة مطمئنة، من أجل تطور الإنسان وإسعاده وإعطائه حقّه في الحياة الكريمة، من أجل مسؤوليتنا أمام الأجيال المقبلة، من أجل بسمة كل طفل يولد على أرضنا' [خطاب الكنيست، ٢٠ نوفمبر ١٩٧٧].
العبقرية المصرية ودورها في صناعة السلام
تتجسد عبقرية الدور المصري في صناعة السلام من خلال ثلاث دوائر متكاملة، تبدأ بالوساطة التاريخية القائمة على رصيدٍ متراكم من الحكمة والمصداقية، فمصر التي أرسى دعائم دورها التاريخي الراحل الرئيس أنور السادات، تواصل اليوم بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي حمل راية السلام العادل، حيث يؤكد في بيانه الرسمي (٢٠٢٤): 'إن مصر ستظل دوماً داعمة للحق الفلسطيني وساعية لتحقيق السلام العادل'. هذا الإرث الدبلوماسي الفريد جعل من مصر الوسيط الأمين والقادر على جمع الأطراف حول طاولة واحدة.
أما الدائرة الثانية فتتمثل في ذلك العطاء الإنساني الذي لا ينضب، حيث ظل معبر رفح شريان حياة ينبض بالرحمة والعون لأهالي غزة. فخلال فترة الحرب، لم يكن المعبر مجرد نقطة عبور، بل كان تجسيداً حياً لوقوف مصر إلى جانب أشقائها، حيث عبرت خلاله أكثر من ١٥ ألف شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية، كما وثقته تقارير الهلال الأحمر المصري (٢٠٢٤). لقد تحول هذا المعبر إلى رمز للصمود والتضامن العربي الأصيل.
وتأتي الدائرة الثالثة متمثلة في الرؤية المستقبلية التي تنتقل بالعلاقات من دائرة السلام إلى آفاق التنمية الشاملة، فقد أسست الاتفاقية لمرحلة جديدة من التعاون الفلسطيني الإسرائيلي من خلال خمس لجان مشتركة تعمل في مجالات الأمن والاقتصاد والمياه والبيئة والسياحة، مع عقد قمة سنوية بين رئيسي الدولتين لمراجعة تنفيذ بنود الاتفاقية.
وتثبت هذه الاتفاقية أن الحلول العسكرية ليست الطريق لتحقيق السلام، وأن الدبلوماسية الواعية القائمة على الصبر والمثابرة يمكن أن تحقق ما فشلت فيه الحروب. كما تؤكد على أهمية الوساطات الإقليمية الفاعلة، خاصة تلك التي تقودها دول تحمل إرثاً حضارياً وتمتلك رؤية استراتيجية، لتكتب مصر بذلك فصلاً جديداً في سجل صناعة السلام بالمنطقة.
خطة الإعمار المصرية شريان الحياة الفلسطينية
تتطلع مصر نحو غدٍ أفضل لغزة من خلال رؤيةٍ شاملة لإعمار، تجسدت في خطة طموحة بقيمة ٥٣ مليار دولار تمتد على مدى خمس سنوات، تهدف إلى تحويل الأنقاض إلى صروح عمرانية، والمعاناة إلى أملٍ واعد، وقد نَقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن المسودة المطروحة للنقاش في القمة العربية الطارئة بالقاهرة، أن هذه الخطة تدمج بين الإغاثة الطارئة وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية طويلة المدى، في نموذجٍ فريد يجمع بين السرعة في الاستجابة والدقة في التخطيط.
وفي المرحلة الأولى للتعافي المبكر، التي تستمر ستة أشهر بتكلفة ثلاثة مليارات دولار، تبدأ مصر وفلسطين بخطوات عملية ملموسة تشمل إزالة ركام المحور المركزي (محور صلاح الدين) وباقي مناطق القطاع، وتوفير مئتي ألف وحدة سكنية مؤقتة، وإنشاء سبعة مواقع تستوعب أكثر من مليون ونصف المليون فرد في وحدات سكنية (حاويات) تتسع لستة أفراد في المتوسط، بالإضافة إلى ترميم ستين ألف وحدة سكنية متضررة جزئياً لاستيعاب ثلاثمئة وستين ألف فرد.
أما مرحلة إعادة الإعمار فتمتد على أربع سنوات ونصف، مقسمة إلى مرحلتين: تتطلب الأولى عشرين مليار دولار حتى عام ٢٠٢٧، وتشمل إنشاء المرافق والشبكات والمباني الخدمية والوحدات السكنية الدائمة، واستصلاح عشرين ألف فدان من الأراضي الزراعية. بينما تتطلب الثانية ثلاثين مليار دولار حتى عام ٢٠٣٠، وتتضمن إنشاء مناطق صناعية وميناء صيد وميناء بحري ومطار؛ لتحويل غزة إلى مركز اقتصادي حيوي.
ولضمان نجاح هذه الرؤية، تقترح الخطة المصرية إنشاء صندوق ائتماني تحت إشراف دولي، يضمن كفاءة التمويل والشفافية والرقابة في الإنفاق. كما تعتزم مصر تنظيم مؤتمر وزاري رفيع المستوى بالتعاون مع السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة، بمشاركة الدول المانحة والمؤسسات التمويلية والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، لحشد الدعم اللازم وتحويل هذه الرؤية إلى واقع ملموس، يعيد لغزة بهاءها ويزيل عنها بلائها، ويضمن مستقبلاً مزدهراً لأبنائها.
الخلاصة
تمثل هذه الاتفاقية التاريخية تتويجًا لمسيرة دبلوماسية حكيمة، جسدت فيها مصر دور الوسيط الأمين بجدارة، محوّلةً مسار الصراع من دوامة العنف والدمار إلى فضاء التعايش والأمل. إنه سلامٌ لا يعبر عن تنازل، بل هو انتصار لإرادة الحياة، يستمد جذوره من المشروعية الدينية الأصيلة في الشرائع السماوية، ويترجم على الأرض من خلال رؤية تنموية طموحة تهدف إلى إعادة بناء الإنسان والمكان، لتكتب غزة بذلك فصلاً جديداً من تاريخها نحو مستقبلٍ يليق بأبنائها.