هل تعيد اسرائيل رسم خريطة سوريا بخمس دويلات طائفية متناحرة ؟

رم -

د. مهدي مبارك عبد الله

يبدو في الخفاء والعلن ان هنالك خطة اسرائيلية تطبخ على نار هادئة لتفتيت الدولة السورية وتحويلها إلى عدة كيانات طائفية متصارعة تحت نفوذ قوى خارجية متعددة الهويات

منذ عقود وسوريا تقف في قلب الاستهداف الإسرائيلي المباشر وغير المباشر فمنذ أن تسلم الرئيس الاسبق حافظ الأسد الحكم في سبعينات القرن الماضي وهي تتعرض لمحاولات مستمرة لإضعافها وتدمير قوتها العسكرية وحرمانها من تحقيق أي تفوق أو توازن مع اسرائيل والتي لم تنسى هزيمتها في حرب تشرين عام 1973ومع مرور السنوات تكرست سياسة تل أبيب في اتجاه إنهاك الدولة السورية وتحويلها إلى ساحة مستباحة للنزاعات والتدخلات حتى باتت فكرة تقسيمها اليوم تُطرح علنًا في في الاجتماعات الامنية والصحف الإسرائيلية بوصفها حلاً واقعياً لما آلت إليه الأوضاع بعد انهيار النظام

مؤخرا نشر الكاتب الإسرائيلي جيسون شفيلي مقالاً في صحيفة يسرائيل هيوم دعى فيه إلى تفكيك سوريا وتحويلها إلى خمس دويلات طائفية وعرقية محددة بوضوح وهي ( دولة علوية في الساحل ودولة كردية في الشمال الشرقي ودولة درزية في الجنوب ودولة للمسيحيين في وادي النصارى ودولة سنية عربية في بقية المناطق ) حيث يزعم بأن هذا التقسيم سيجلب الاستقرار وينهي الفوضى بينما الحقيقة أن هذا الطرح ليس سوى إعادة إنتاج لذهنية استعمارية قديمة تبحث عن مصالح إسرائيل في تفتيت المشرق وتحويله إلى فسيفساء ضعيفة يسهل التحكم بها

هذه الرؤية الإسرائيلية ليست جديدة بل هي امتداد لمشروع قديم وضعته مراكز أبحاث في تل أبيب منذ ثمانينيات القرن الماضي أبرزها ما طرحه عوديد ينون في دراسته عن استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات والتي نصت بوضوح على ضرورة تقسيم الدول العربية الكبرى إلى كيانات صغيرة متناحرة باعتبار أن ضعف الجيران هو الضمانة لبقاء إسرائيل قوية وآمنة واليوم تأتي هذه الدعوات لتجديد العمل بتلك الاستراتيجية تحت غطاء الفكر الأكاديمي والمصطلحات الحديثة كالفيدرالية وحق تقرير المصير والدفاع عن الاقليات

لقد نجحت إسرائيل خلال سنوات الحرب السورية في تحقيق جزء من أهدافها دون إطلاق رصاصة واحدة فقد تم تدمير معظم القدرات العسكرية السورية القديمة وسقطت منظومات الدفاع الجوي ومعامل السلاح وتراجعت هيبة الجيش السوري الذي كان يوماً يشكل التهديد الأكبر لتل أبيب ومع نهاية حكم النظام السابق لبشار الاسد باتت البلاد مفتوحة أمام كل التدخلات الأجنبية والاحتلالات الجديدة إذ لم تكتف إسرائيل باحتلال الجولان بل تجاوزت اتفاقية فصل القوات الموقعة عام 1974 حين توغلت وحداتها الخاصة داخل ريف درعا واعتقلت مواطنين سوريين ونفذت عمليات خاصة في العمق بذريعة مواجهة النفوذ الإيراني غير الموجود اصلا

كما تدخلت تل ابيب في الشأن الداخلي السوري عبر دعمها العاجل لتحركات سياسية وطائفية سعت إلى تفكيك النسيج الوطني حيث عملت على استغلال ورقة الدروز في السويداء ومحاولة توجيههم نحو الانفصال وروجت لأفكار عن دولة درزية مستقلة تحت حمايتها بينما سيتلقى المسيحيون دعماً إسرائيلياً بذريعة الحماية وهكذا يصبح كل كيان طائفي تابع لمظلة خارجية توفر له البقاء مما يجعل سوريا كلها ساحة واسعة للصراعات الداخلية والخارجية

الاسواء من التقسيم ذاته ما سيترتب عليه من صراعات متوقعة بين هذه الدويلات الطائفية فكل دويلة ستجد نفسها بحاجة إلى حليف خارجي يضمن بقائها ما يعني فتح الباب أمام حروب بالوكالة تغذيها إسرائيل نفسها لتبقى المتحكم الوحيد في توازن القوى فالدولة السنية ستتصادم مع الكيان الكردي على منابع النفط والمياه بينما سيتنازع العلويون والدروز النفوذ على الجنوب والجبال وستتحول البلاد إلى رقعة شطرنج تتقاطع فيها المصالح ( التركية والإيرانية والروسية والإسرائيلية ) في آن واحد وهذا ما تريده تل أبيب بالضبط إذ لا يهمها قيام دويلات مستقلة بل أن تبقى سوريا مشتعلة في نزاعات لا تنتهي تجعلها عاجزة عن النهوض لعقود قادمة

في ظل هذا المشهد المعقد تبدو السلطة السورية اليوم عاجزة عن مواجهة التحديات الكبرى فالوضع الداخلي مأزوم والاقتصاد منهار والانقسام المجتمعي يتسع يوماً بعد يوم من حلب إلى الحسكة ومن الساحل إلى الجنوب اشتباكات ونزاعات تتكرر بين قوى محلية مختلفة بعضها مدعوم من الخارج وبعضها يحاول البقاء في فراغ الدولة وهذه الحالة من الفوضى توفر لإسرائيل أفضل بيئة لتمرير مشاريعها السياسية والأمنية

ما يزيد خطورة الأمر هو ارتباط هذه الدعوات بمشاريع دولية أوسع كصفقة القرن واتفاقات إبراهام التي تسعى لتطبيع وجود إسرائيل في المنطقة عبر إعادة هندسة جغرافيتها السياسية بحيث تصبح تل أبيب مركز الاستقرار الوحيد في محيط من الدويلات الطائفية الضعيفة وهو ما يضمن لها تفوقاً دائماً في كل المجالات من الأمن إلى الاقتصاد

في حال تحقق المشروع الإسرائيلي ( لا قدر الله ) وتمزقت سوريا إلى خمس دويلات طائفية متناحرة فإن المشهد الإقليمي سيتحول إلى لوحة متداخلة من النزاعات المفتوحة لا غالب فيها ولا مغلوب وستنشب حروب حدودية واقتصادية بين هذه الكيانات حول المياه والنفط والموانئ وستغدو مناطقها المتجاورة ساحات دائمة للتدخل الخارجي تركيا مثلا ستتدخل لحماية نفوذها في الكيان السني والشمال الكردي سيطلب حماية أمريكية بينما ستظل الدولة العلوية مرتبطة بروسيا وإيران والدروز والمسيحيون سيتلقون دعماً من إسرائيل بذريعة الحماية والضمانة

مع كل ذلك لن يكون لأي من هذه الكيانات قدرة على البقاء من دون رعاية خارجية مما يحولها إلى دويلات تابعة تدور في فلك القوى الكبرى وفي قلب هذه المعادلة ستبقى إسرائيل الرابح الأكبر لأنها ستنجح في إقامة حزام من الكيانات الضعيفة حولها يمنع أي تهديد مستقبلي لوجودها ويتيح لها التمدد الاقتصادي والأمني في عمق المشرق العربي تحت غطاء الاستقرار الإقليمي المزعوم

الحقيقة المؤكدة إن ما يجري ليس مجرد نقاش فكري ساخن خلف الابواب المغلقة او في الصحف بل هو جزء اساسي من مخطط متكامل يعكس رؤية إسرائيلية ثابتة تعتبر أن سوريا الموحدة والقوية تشكل خطراً استراتيجياً على وجودها ولذلك تعمل على إطالة أمد الصراع الداخلي بين النظام الجديد ومعارضيه وإبقاء مؤسسات الدولة في حالة شلل دائم كي لا تنهض من جديد ولا تستعيد توازنها التاريخي في مواجهة المشروع الصهيوني

رغم كل ما لحق بسوريا من دمار ومعاناة يبقى الأمل قائماً في وعي الشعب السوري الذي أثبت عبر تاريخه الطويل أنه لا يقبل التقسيم ولا يرضى بوصاية خارجية وأن فكرة الوطن الواحد المتنوع هي جوهر وجوده وهويته التي لا يمكن محوها مهما حاولت القوى الكبرى وإن دعوات التقسيم التي تصدر من تل أبيب اليوم ليست سوى امتداد لاحتلال الذي لم ينته ووجه آخر لمشروع استعماري يسعى لإعادة تشكيل المنطقة على مقاس إسرائيل لكن التاريخ علّمنا أن الشعوب قد تنهزم مؤقتاً لكنها لا تُمحى وأن سوريا مهما طال ليلها ستبقى موحدة بأرضها وشعبها وتاريخها وهي قادرة على إفشال كل مخططات التفتيت كما أفشلت من قبل مشاريع سايكس بيكو وغيرها من المؤامرات الاستعمارية لتقسيم العرب في بلاد الشام

ختاما : ان مواجهة هذه المخططات لا تكون بالشعارات ولا بالرهان على وعود الخارج بل بإعادة بناء الذات الوطنية السورية على أسس جديدة تستند إلى وحدة الأرض والشعب واستعادة الثقة بين المكونات وإطلاق مشروع وطني جامع ينهض فوق الطائفية والانقسامات ويعيد للمؤسسات قوتها وهيبتها فالقوة الحقيقية لا تأتي من السلاح وحده بل من تماسك الجبهة الداخلية ووضوح الرؤية السياسية كما أن على سوريا أن تستعيد حضورها الإقليمي والدولي عبر سياسة واقعية متوازنة تقوم على الانفتاح على محيطها العربي واستعادة دورها الطبيعي في النظام العربي الجماعي بدل الارتهان لمحاور متصارعة

وفي المقابل لا بد من تطوير قدرات الردع والدفاع والجهوزية حتى لا تبقى البلاد مفتوحة أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ومن الضروري اكثر أن يكون هناك مشروع وطني للتنمية يعيد الأمل للسوريين ويمنحهم سبباً للبقاء في وطنهم فالتقسيم لا يبدأ على الورق بل حين يفقد المواطن ثقته بدولته وحين يشعر أن لا مستقبل له فيها ومن هنا فإن حماية سوريا اليوم لا تكون فقط على المحاور والجبهات بل أيضاً في المدارس والجامعات والمصانع وفي عقول أبنائها الذين يحملون راية وحدتها ضد كل محاولات التشرذم والانقسام

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية

[email protected]