اخبار مصر
موقع كل يوم -صدى البلد
نشر بتاريخ: ٣٠ أيلول ٢٠٢٥
لا أحد يدخل الحياة الزوجية فارغ اليدين. كلٌّ منّا يحمل حقيبة غير مرئية، حقيبة لا يعرف وزنها إلا قلبه، لكنها ترافقه في كل تفصيل من تفاصيل العلاقة. في تلك الحقيبة تختبئ طفولتنا بما تركته من دفء أو ندوب، طريقة أهلنا في التعبير عن الحب أو في إخفائه، مخاوف صغيرة لم نتصالح معها، تجارب أولى علّمتنا كيف نطلب الاهتمام أو كيف نتفاداه. نحمل معنا صورة الأمومة والأبوة كما عشناها، مفاهيمنا عن القوة والضعف، وحتى الأسلوب الذي تعلمناه في مواجهة الغضب أو الصمت.
هذه الحقيبة لا تُرى بالعين، لكنها تتحكم في ردود أفعالنا حين نغضب أو نختنق. منها يخرج صدى طفولي قديم: من يرفع صوته سريعًا، ربما تعلم في بيته أن الصراخ طريق للنجاة؛ ومن يلوذ بالصمت، ربما نشأ في بيت كان الكلام فيه عبئًا. وهكذا تبدأ أولى الخلافات الزوجية من دون أن ندرك أن جذورها أعمق من الموقف اللحظي، وأن الحوار لا يدور فقط حول التفاصيل اليومية، بل حول تاريخٍ شخصي يتشابك في لحظة الحاضر.
في كل بيت، مهما بدا متماسكًا أو مفعمًا بالمودة، تتسلل الخلافات في لحظات غير متوقعة. قد تبدأ باختلاف حول قرار بسيط، ثم تتدحرج لتكشف عن جروح قديمة أو رغبات لم تُقال بعد. الخلاف بحد ذاته ليس المشكلة، إنما طريقة التعامل معه هي التي تحدد إن كان سيصبح جسرًا يعمّق التفاهم، أم حاجزًا يراكم المسافة. هنا يطلّ مفهوم الذكاء العاطفي ليقدّم مفتاحًا مختلفًا؛ لا يقوم على الانفعال أو الجدل، بل على وعي أعمق بالنفس والآخر.
الذكاء العاطفي هو القدرة على قراءة المشاعر وفهمها والتحكم في ردود الفعل، لا لكبتها أو إنكارها، بل لتوجيهها نحو حوارٍ يفتح الباب أمام الحلول. إنه إدراك أن الغضب لا يُطفأ بالصوت المرتفع، وأن الصمت الطويل قد يكون جدارًا لا استراحة. في الخلافات الزوجية تحديدًا، يتحول هذا الذكاء إلى مهارة بقاء؛ فالعلاقة التي تنجو ليست تلك الخالية من المشاحنات، بل تلك التي يعرف طرفاها كيف يهبطان بأمان بعد العاصفة.
عندما تتقاطع حقيبتان ممتلئتان بالعادات والتوقعات، يلتقي الماضي بالحاضر في مساحة واحدة. هنا تتسلل الخلافات الصغيرة لتصبح معارك كبيرة: كلمة غير مقصودة تستحضر شعورًا قديمًا بالإهمال، تصرّف عابر يعيد إلى السطح إحساسًا بالخيانة أو الحرمان. وكلما حاول أحدهما شرح موقفه، وجد الآخر نفسه أمام شريط من الذكريات لا يخص هذه اللحظة لكنه حاضر بكل قوته.
عند احتدام الخلاف، يعيش الرجل والمرأة مشاعر متباينة أحيانًا، متشابهة أحيانًا أخرى.
الرجل غالبًا ما يميل إلى حلّ المشكلة عمليًا؛ ينشغل بالنتيجة أكثر من التفاصيل، فيسعى لإيجاد مخرج سريع يوقف التوتر. هذا التركيز على “المهمة” قد يجعله أحيانًا يبدو باردًا أو غير مبالٍ، بينما هو في داخله يحاول السيطرة على انفعاله ليبقى ممسكًا بخيوط الموقف. في المقابل، تميل المرأة إلى البحث عن الفهم العاطفي قبل الحل؛ تريد أن تشعر بأن ألمها أو غضبها مسموع ومفهوم، حتى لو استغرق الحوار وقتًا أطول. لذلك، حين يقترح الرجل حلاً سريعًا من دون الإصغاء لمشاعرها، قد تراه يتهرّب من جوهر المشكلة، بينما يظن هو أنه يخفف عنها.
لكن هذا التقابل ليس صراعًا قدريًا، بل ساحة يمكن للذكاء العاطفي أن يوازنها.
الرجل الذي يدرك أهمية التعبير العاطفي يتعلم أن الحل لا قيمة له إن لم يسبقه إصغاء صادق. والمرأة التي تدرك حاجة الرجل إلى التماسك قد تختار كلماتها بوعي، فتقلّل من الاتهامات وتفتح مساحة للحوار. هنا يصبح الخلاف فرصة للتقارب، إذ يتنازل كل طرف عن تمسكه بـ'طريقته المثلى' في سبيل لغة مشتركة تضمن احترام المشاعر والنتائج معًا.
وعندما ننظر بشكل تحليلي لهذا التباين فإنه يكشف جذورًا أعمق من مجرد اختلاف شخصي.
الرجل في أغلب الثقافات يُربّى على كبح العاطفة وربط قيمته بالقدرة على الإنجاز، فينشأ وهو يشعر بضغطٍ دائم ليظهر قويًا وعمليًا حتى في المواقف الحميمية. أما المرأة، فتتلقى تشجيعًا على التعبير والانتباه للتفاصيل، فيتسع قاموسها العاطفي لكنها تواجه اتهامات بالمبالغة إذا أظهرت ما تشعر به. هذه التنشئة المتناقضة تجعل لحظة الخلاف ساحة اختبار لكل ما حمله الطرفان من مفاهيم عن القوة والضعف.
هنا يظهر دور الذكاء العاطفي كمهارة تنقذ العلاقة من أسر الماضي. الذكاء العاطفي ليس مجرد لطفٍ في التعامل، بل قدرة واعية على قراءة الذات والآخر في العمق. إنّه أن نلاحظ إشارات الغضب قبل أن تتحول إلى كلمات جارحة، وأن نفهم أن خلف الانفعال حكاية غير مروية، وأن نبحث عن المعنى خلف الموقف لا عن الحكم السريع.
الذكاء العاطفي يحرر الزوجين من هذه القوالب. فهو لا يطلب من الرجل أن يتخلى عن حله، ولا من المرأة أن تتنازل عن شعورها، بل يدعوهما إلى الاعتراف بالمشاعر أولًا ثم الانتقال إلى الحلول. تبدأ الخطوة الأولى بالوعي الذاتي: أن يسأل كل منهما نفسه، ما الذي أشعر به حقًا؟ غضب؟ خوف من الفقد؟ إحساس بعدم التقدير؟ هذه الأسئلة تحول الانفعال الغامض إلى رسالة واضحة. تليها خطوة التعاطف، أي القدرة على النظر إلى الموقف بعين الآخر: كيف يبدو الخلاف من زاويته؟ ما الذي يخيفه أو يؤلمه؟ هذه المرحلة تذيب الكثير من التوتر، لأنها تكسر وهم العداء وتعيد التذكير بأن الطرفين يقفان في صف واحد، حتى لو اختلفت وجهات النظر.
ومن ركائز الذكاء العاطفي أيضًا إدارة التوتر. فالخلافات لا تُحسم في لحظة احتدام، بل تحتاج إلى وقفات هادئة. أحيانًا يكون أفضل ما يمكن فعله هو تأجيل النقاش حتى يهدأ الانفعال، لأن الكلمات التي تُقال في ذروة الغضب تترك ندوبًا أعمق من أي خلاف موضوعي.
وهنا يتجلى الذكاء العاطفي في ممارسات صغيرة لكنها حاسمة:
اختيار الوقت المناسب للنقاش بدل الانجرار إلى جدالٍ أثناء احتدام الغضب.
استخدام عبارات تصف المشاعر لا الاتهامات، مثل 'أشعر بأن رأيي لم يُسمع' بدل 'أنت لا تهتم'.
التوقف المؤقت عند تصاعد الانفعال، مع وعدٍ بالعودة إلى الحوار، لحماية العلاقة من كلمات لا يمكن استرجاعها.
إلى جانب هذه المهارات، يحتاج الزوجان إلى بناء ثقافة تواصل صادق. الصدق هنا لا يعني الإفصاح عن كل شعور فورًا، بل اختيار الوقت والأسلوب المناسبين. الذكاء العاطفي يعلمنا أن التعبير عن الألم قد يكون أكثر تأثيرًا إذا حمل معه احترامًا للمساحة المشتركة، لا مجرد تفريغ للغضب.
إن نجاح الحياة الزوجية لا يقاس بغياب الخلافات، بل بقدرة الطرفين على تحويل الخلاف إلى مساحة لفهم أعمق. حين يتعلم الرجل والمرأة الإصغاء إلى ما وراء الكلمات، يكتشفان أن الغضب يخفي خوفًا، وأن الصمت قد يكون طلبًا للحب، وأن الحلول الحقيقية لا تُكتب على الورق، بل في القلب الذي يجرؤ على المصالحة.
فالذكاء العاطفي ليس وصفة سريعة، لكنه مهارة تبني جسرًا متينًا بين شريكين يختاران أن يظلا فريقًا واحدًا رغم اختلاف الأمزجة والأساليب. إنه تذكير دائم بأن الحب لا يحمي من الخلاف، بل يمنح الشجاعة الكافية لتجاوزه، كل مرة، بطريقة أرقى وأعمق.