اخبار اليمن
موقع كل يوم -المشهد اليمني
نشر بتاريخ: ١٦ تشرين الثاني ٢٠٢٥
تُعدّ فتوى الإمام محمد بن علي الشوكاني (ت 1250هـ= 1834م)، أحد أبرز مجددي الفقه الإسلامي ومُحرري المنهجية الاجتهادية، بإباحة تعاطي القات في سياق كتابه الموسوم 'البحث المسفر في تحريم كل مسكر ومفتر'، مجالاً خصباً للدراسة المنهجية التي تكشف عن تداخل العوامل الفقهية والشخصية والثقافية في صناعة الحكم الشرعي وتأثيره. لقد شكلت هذه الفتوى، لقيمتها التاريخية وسلطة قائلها العلمية، نقطة تحول أثرت بقوة في ترسيخ الظاهرة وتناميها في المجتمع اليمني وغيرت تاريخ القات في اليمن بشكل حاسم.
لقد اعتمدت استراتيجية الشوكاني في الإقناع على هيكلية منهجية مُحكمة، بدأت بـتأطير المسألة فقهياً عبر الإجابة على سؤال دقيق ومُوجّه، طُلب فيه بيان حُكم الزعفران والجوز الهندي و'نوع من القات'، وهل تُحرم قياساً على الحشيشة بجامع 'التفتير'. هذه الصياغة الذكية للسؤال هي مفتاح الاستراتيجية؛ إذ وجهت النقاش نحو علتي التحريم القطعيتين في الشريعة، وهما الإسكار والتفتير، مستبعدةً بذلك الأدلة القائمة على الضرر العام أو المالي التي تُعدّ أقل قوة في الاستدلال من النصوص الصريحة.
في تحليل النص، يتبع الشوكاني منهجاً استدلالياً صارماً، يقوم أولاً على تثبيت القاعدة الكلية؛ حيث يورد الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم كل مسكر ومفتر، ويُصحح الأحاديث الواردة في تحريم 'المُفتر'، كحديث أم سلمة، لدعم القاعدة وتوسيع نطاقها لتشمل الحشيش ونحوه. ثم ينتقل ثانياً إلى تطبيق القاعدة على الجزئيات المذكورة، ليُقرر تحريم الحشيش والجوز الهندي لقيام علة الإسكار أو التفتير فيهما. أما عند النظر في القات، فيبرز التحول الحاسم في استراتيجيته؛ إذ يرفض الشوكاني إدراج القات تحت عموم 'المفترات' بناءً على التجربة والاختبار الشخصي المباشر، حيث أقرّ بأنه لم يجد فيه 'تخديراً ولا تفتيراً'، بعد شرحه المعمق لمعاني السكر والخمر والتفتير.
يُظهر هذا المنعطف في الاستدلال توظيفاً لسلطة 'المجتهد' الذي يرفض التقليد وينبذ التعصب، ويعتمد على الحقيقة المُدركة حسياً بدلاً من القياس المُعلَّل الذي قد يضلّ عن الصواب؛ إنها استراتيجية إقناعية تجمع بين قوة النص الشرعي العام وضرورة تحقيق المناط في الواقع؛ أي التأكد من وجود علة التحريم (الإسكار/التفتير) في المادة المُتناولة. ومنهجياً، اعتُبرت هذه الفتوى مثالاً على أثر 'ثقافة المفتي وبيئته' في إصدار الحكم؛ حيث لم يُحقق الشوكاني علة التفتير في الواقع الذي عايشه، متأثراً بالشيوع الشعبي للقات آنذاك، مما أدى لتبني حكم الإباحة. هذا المزيج من المكانة العلمية (كمُجتهد غير مُقلد) والاستدلال بالتجربة الذاتية، عزز مكانة الفتوى وأثرها، وجعلها أساساً لكل من أباح القات لاحقاً، مما يُسلط الضوء على الأثر العميق للثقافة الاجتماعية في توجيه الفتوى الفردية وتلقّي الجمهور لها.













































