اخبار اليمن
موقع كل يوم -المهرية نت
نشر بتاريخ: ٢٨ أيار ٢٠٢٥
تتحدث الفلسفة الرواقية، التي قامت على أكتاف أعلامها سينيكا، وإيبكتيتوس، وماركوس أوريليوس، عن نظرة عميقة للحياة ترى أن معاناتنا النفسية ليست سوى انعكاس لنظرتنا لها. ويدعونا هؤلاء العظماء إلى أن نعي جيدا أن الألم الداخلي لا ينشأ من الأحداث ذاتها، بل من الطريقة التي نتفاعل بها مع تلك الأحداث. فالرواقية، في جوهرها، فلسفة للتأمل ونهج للحياة يرتكز على مواجهة الأعباء بصفاء، وعلى استقبال السكينة من الداخل بدلا من البحث عنها في الظروف الخارجية.
وتعلمنا هذه الفلسفة أن السكينة ليست شيئا يسعى الإنسان خلفه في محاولات محمومة، بل هي حالة طبيعية تفيض حين نترك للأمور مسارها ونكتفي بضبط ما نستطيع التحكم فيه. ووفقا للرواقيين، فالأزمات والمعاناة لا تأتي من تلقاء نفسها، وإنما هي نتاج تفسيراتنا وأفكارنا المعلقة على تلك الأحداث، وتلك هي النقطة التي علينا أن ننظر فيها بعمق، حيث يقول إيبكتيتوس: 'الأشياء ليست ما تزعجنا، بل آراؤنا عنها'. فلا يعقل أن نترك ذاتنا منغمسة في القلق إزاء ما لا نملك القوة لتغييره، ولا ينبغي للإنسان أن يعلق طمأنينته بيد متغيرات عابرة خارجة عن إرادته.
وإذا كانت بعض المصاعب في الحياة أمورا لا نملك التحكم فيها، فإن الفلسفة الرواقية تدعونا إلى أن نتعامل معها بحكمة وصبر، بدلا من أن نقضي وقتنا نحاول تجنبها. وليس ذلك من باب الرضوخ، بل هو طريق لإيجاد قوة داخلية، تجعلنا نواجه كل ما هو غير متوقع بثبات وهدوء، لنصبح بذلك أكثر تماسكا، وأقل عرضة للهزات النفسية، في وجه التحديات التي نتعرض لها.
ويرى سينيكا أن على المرء ألا يكون أسيرا للأشياء ولا للمشاعر التي تثير في نفسه الاضطراب، بل عليه أن يُخرِج من حياته كل ما يعكر صفو روحه، فلا مكان في الرواقية للتشبث بالأمور والأشخاص الذين يثيرون فينا القلق أو الغضب، وعلينا أن نتجاوزهم بقدر ما يقتضيه سلامنا الداخلي. فالعزلة الروحية عن تلك المؤثرات لا تعني البعد عن الناس، بل هي حالة من الاستقلال الداخلي، حيث يتطهر الإنسان من كل ما يثقل روحه، ويتخلص من الأعباء غير الضرورية التي قد تعيق سلامه وراحته.
وما أروع ماركوس أوريليوس حين يذكرنا بأن الحياة تتطلب التركيز على اللحظة الراهنة، وأن العيش في الماضي أو التشبث بالقلق حول المستقبل، لا يؤديان إلا إلى خنق اللحظة الحالية. ويحثنا على ألا نحمل هموم الأمس أو قلق الغد في حقيبة اليوم، بل أن نسير خفيفين نحو الحاضر بوعي وانتباه، ناظرين إلى اللحظة كأنها الشيء الوحيد الذي نملك حقا، فنمنحها كل تركيزنا، ونستمتع بها دون أن نشوبها بأي شعور يثقل كاهل الروح.
وتعلمنا الرواقية، عبر سطور حكمائها العميقة، أن قوة الإنسان لا تأتي من محاولة التحكم في الأمور الخارجية أو الهروب منها، بل من القدرة على ضبط نفسه أمامها، وعلى امتلاك الوعي الكافي لترتيب الأولويات، وتمييز الأمور التي تستحق منا الاهتمام. فالإنسان الرواقي لا يهتم بالبحث عن متع زائلة، ولا يلاحق البهجة لحظيا، بل يسعى لبناء حالة من السلام الدائم، تتعمق في داخله مع مرور الأيام. وهو لا يقتصر على النظر إلى الحياة كسباق نحو النجاح، بل يسعى للانفتاح على تجاربها المختلفة دون خوف من الخسارة أو أمل في المكاسب العابرة.
ويدرك الرواقيون أن الفرح الحقيقي ينشأ حين نسمح لأنفسنا بالتخلص من الأفكار التي تعيقنا عن الحرية النفسية، وأن الألم لن يزول بالاستسلام له، بل بالتعامل معه بوعي وحكمة، مستشعرين أن الراحة لا تنبع من الهروب من الصعاب، بل من مواجهتها بعقل مطمئن وقلب قوي. فتلك الفلسفة لا تدعونا لأن نغرق في معترك الحياة، ولا لأن نتجاوز قساوتها بلا ألم، بل لأن نجد في أعماقنا مساحة واسعة من التقبل والتأمل، نعيد فيها بناء هدوء النفس وقوتها.
وهكذا، تظل الفلسفة الرواقية دربا يربطنا بسلام النفس، ومسارا يخرجنا من عبء الحياة نحو نقاء الروح، حيث يتعلم الإنسان أن ينظر بعين داخلية نقية لكل ما يحيط به، وأن ينمو في صمته ويزدهر في وعيه، في ظل فلسفة تهديه إلى الاستقرار النفسي الذي ينبع من صميم روحه، بعيدا عن كل ما يثقل خطواته.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك