اخبار اليمن
موقع كل يوم -المشهد اليمني
نشر بتاريخ: ٢٤ تشرين الثاني ٢٠٢٥
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، سمح الإنجليز في عدن بإنشاء كيان يمني جديد مُعارض لنظام الإمام يحيى حميد الدين، وذلك بعد أنْ زال تخوفهم من تَحالف الأخير مع الإيطاليين. ولم يحل عام 1946م (4 يناير تحديدًا) إلا وذلك الكيان المُتمثل بـ (الجمعية اليمانية الكبرى) يتصدر المشهد، برؤى ناضجة، ومَطالب شَاملة تهم كل اليمنيين، وعلى رأسه كوكبة من الأحرار المُستنيـرين.
تولّى القاضي محمد محمود الزبيري رئاسة تلك الجمعية، فيما شغل الأستاذ أحمد محمد نعمان منصب سكرتيرها العام. ولم يمض من الوقت الكثير حتى أنضم إليهما الشيخ جازم الحِروي، الخارج لتوه من سجون الإمامة، وفي ليلةٍ مشحونةٍ بالأماني وعدَهما بتوفيرِ المالِ اللازمِ لشـراءِ مطبعةٍ خاصةٍ بالجمعية، خاصَّةً وأنَّ الإنجليزَ كانوا قد سمحوا بإصدارِ صحيفة باسم (صوت اليمن)، ومنعوا في المُقابلِ المطابع العدنية من طباعتِها!
النهضة اليمانية
حرَّك موقفُ الشيخِ جازم الحِروي مياهَ الجمعيةِ الراكدة، وتوجَّه من أجلِ الإيفاءِ بوعدِه إلى أسمرةَ والحبشة، وتبنَّى - ورفيقُ دربِه المناضلُ أحمد عبده ناشـر العريقي - حملةَ جمعِ التبرعاتِ لذلك المشـروعِ الطموح، والحُلمِ المؤجَّل، وجمعا 3,000 روبية، وقاما - بالفعلِ - بشـراءِ مطبعةٍ حديثةٍ ومُستعملةٍ من مصـر، بواسطةِ المناضلِ محمد صالح المسمري (أحدِ شهداءِ الثورةِ الدستورية)، وأشـرفا على إيصالِها إلى جيبوتي، ومن الأخيرةِ عاد بها الشيخ جازم إلى عـــدن، ومعها كلُّ لوازمِها، فكـان أروعَ إنجازٍ، وأعظــمَ انتصار.
ربط الأحرار تلك المطبعة باسمها القديم (نهضة مصـر)، وأطلقوا عليها اسم مطبعة (النهضة اليمانية). فيما تَولّى سعيد الدمشقي - في ليلة وصولها - تركيبها، وذلك في مبنى مُجاور لمقر الجمعية الكائن في شارع العيدروس. وهو - أي الدمشقي - صديقٌ قديم ومُقرّب للشيخ جازم الحروي، وبينهما مُصاهرة، وقد اُستُدعي من صنعاء لتلك المهمة، حيث كان يعمل في صحيفة (الإيـمـان) المُتوكلية، التي كانت - حينها - محدودة الصدور. ومن الحبشة، أرسل المُناضل أحمد عبده ناشـر العريقي بالخبير اليمني المُتخصص عبد الله طاهر الصنعاني، وقد تولّى الأخير مهمة تشغيلها، وتدريب عُمّال المطبعة على رصــــف الحروف.
وعلى ذكر صحيفة (الإيمان) المُتوكلية، فقد دأبت على مُهاجمة الأحرار في عدن، ووصفهم بأنهم (أعداء، سفهاء، ملعونون، خارجون). وتكرّرت فيها المَقالات عن ما أسمتهم بـ (الفئة المنحرفة)، وصحيفتهم التي أسمتها بـ (صوت الحمير). وجاء في عددها الـ 79 ما نصه: «يوجد في عدن رهطٌ يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون، ليسوا من السادة اليمانيين، ولا من العلماء العاملين، ولا من طلبة العلم المُتورعين، ولكنهم شذّوا عن طريقة أهل الدين... فليحذر أهل العقول والدين من الاغترار بأقوال هؤلاء السفهاء والأوغاد».
فيما تهكّم رئيس تحريرها عبد الكريم مطهر في عددها الصادر مطلع العام 1947م على أولئك الأحرار، قائلًا: «إنَّ الذين ينضوون تحت لواء النصارى، فارّين من جنة الإيمان، يصدق عليهم قوله تعالى: 'ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم'».
وقد ردّت صحيفة (صوت اليمن) على ذلك التهكّم في إحدى مقالاتها، ومن ذلك المقال الافتتاحي نقتطف: «وليتّقِ الله رئيس تحرير الإيمان ومديرها المسؤول، وليعلما أنَّ الله سائلهما عمّا يسطران في الجريدة من تحريف الكلم عن مَواضعه، دفاعًا عن الظلم والباطل».
طُبعت مَنشورات الجمعية اليمانية الكبرى وصحيفة (صوت اليمن) في مطبعة (النهضة اليمانية)، وقد صدر عدد تلك الصحيفة الأول قبل نهاية ذلك العام بشهرين (أكتوبر 1946م). وهي أول صحيفة حزبية مُعارضة في اليمن، ومتنفّس الأحرار الأوحد خلال تلك الفترة، وصوتهم المُعبّر عن آمال الشعب والأمة. أطلوا من خلالها على العالم، وكانت بحقّ الدليل الفعلي لمعرفة تفكيرهم، ونشاطهم، وتوجّههم. وعلى صدر صفحاتها نشـروا الرسائل، والنـــداءات، والمقــــالات الشارحة لمعـاناة الشعب اليمـني الأصيل.
كانت تلك الصحيفة مدرسة في الصحافة الوطنية، أقضّت مَضاجع الطغاة من بيت حميد الدين على مدى عام وأربعة أشهر، و69 عددًا، وهدّت كيانهم، وقامت بدور فعّال على طريق الإعداد للثورة، من خلال الدعوة إلى الإصلاح، ونشـر الوعي بين الشباب، وخلق توجه فكري ذي نزعة وطنية منجذبة - ولو عاطفيًا - نحو الهوية والخصوصية اليمنية، في مُقابل النزعة السلاليـة المذهبية المُنغلقـة على ذاتـها، والمُتحكمـة آنـذاك بالقرار السياسـي.
أرواح التبابعة والأقيال
لم تأتِ تسمية تلك الصحيفة بـ (صوت اليمن) من فراغ؛ بل اختيرت بوعي بالغ، وإدراك عميق. ويُؤكد ذلك مَقال القاضي محمد محمود الزبيري التعريفي، الذي نُشـر في عددها الأول تحت عنوان: (ما هي صوت اليمن)، وفيه تحدّث عن الشعب اليمني العظيم، وارث الحضارة، وحفيد الأقيال، وسليل المُلوك، وأرومة العرب الأولى.
ثم انتقل القاضي الزبيري إلى الحاضـر المُؤلم، وتساءل بحسـرة: كيف أصبح هذا الشعب، الذي يُعد من أعرق الشعوب في الحضارة والسؤدد، أيام كانت الأقطار مَجاهل غافلة، والأمم أطفالًا سادرة، كيف أصبح في عصـر الثقافة والعلم والعمران طلمسًا مشكلًا، ولغزًا غامضًا؟ مُوضحًا أنَّ هذا الشعب لن يبقى مهمّشًا خانعًا مهما تكالبت عليه الظروف، واستبدّ به طارئ يعمل على مُصادرة هويته.
واستدرك القاضي الزبيري أنَّ جوّ العالم الجديد ساعد الشعب اليمني على الحركة والتنفس والانطلاق، وأنَّ أرواح التبابعة والأقيال خفقت تنفخ الحياة في أشباح أحفادها، وأنَّ صوت اليمن الداوي انبعث من أعماق التاريخ يسوق اليمانيين إلى مجدهم سوقًا، ويفرض عليهم أعباء الكفاح فرضًا، ويضـرب أسماعهم بهذه الأسواط الروحية الناطقة.
وفي العدد الثاني، بعث القاضي الزبيري خطابًا مَفتوحًا للإمام يحيى، جاء فيه: «لن يخفف عنكم عبء المسؤولية إلا إذا عملتم باقتراح الجمعية اليمانية الكبرى، الذي تقدّم إليكم سابقًا، وهو أنْ تجمعوا العلماء والرؤساء وقَادة الرأي ورجال الفكر، وتطلبوهم من كل منطقة من مناطق اليمن، وتجعلوا في مقدّمتهم أولئك الزعماء المُعتقلين في حجة، وتؤلّفوا منهم مجلس الوزارة والشورى، وتُسلّموا إليهم الأمانة التي وضعها الله على عاتقكم وحملتموها منذ أربعين عامًا».
وجاء نشيد الأحرار المنشور في العدد 15 من ذات الصحيفة، وهو من كلمات القاضي الشاعر إبراهيم الحضـراني، جاء ليعبّر أكثر عن ذلك التوجّه القومـي، ومنه نقتطف:
إنْ يـــكـــــــن بــادَ مـــــجـــــدُنـــــا
وهــوى ركــــنُــــــه المشـــــيَّــــــــد
وانـــقـــضــــــى عــزُّ حـــــمـــيــــر
وخـــبـــا بـــــأسُــــها الشــــــديــــــد
قـــــــــســــمًا لـــــن نـــــكـــــــلَّ أو
نرفــع الصوتَ مــــــــن جديـــــــــد
وفي العدد 23، نُشـر مقال افتتاحي آخر، يبدو فيه وبوضوح نفس القاضي الزبيري، جاء فيه: «إنَّ قوة الاستعداد كامنة فيك أيها اليمني منذ آلاف السنين، منذ كانت اليمن مصدر الحضارة، وأمّ المدنية والرقي. إنَّ دم أجدادك الأمجاد لا يزال يجري في عروقك حارًّا مُتدفقًا، فلماذا لا تستخدمه في إنقاذ نفسك وأمتك من هوّة العدم؟ إنَّ وطنك يستنجد بك، فهل تلبي نـداء ضمــيرك؟».
وعلى ذات الأسلوب الاستنهاضي، توالت في الصحيفة المُناشدات الداعية إلى بعث الروح اليمنية الغائرة في أعماق الماضي التليد، واستحضارها من جديد، ردًّا على التغوّل الإمامـي الطامس للهوية، والضارب بيدٍ من حديد.
وكتب المُؤرخ إسماعيل بن علي الأكوع سلسلة مقالات توثيقية طويلة تحت عنوان: (عِش لحظةً مع أجدادك)، وذلك في الأعداد العشـرة المُتأخرة التي صدرت من القاهرة، غاص فيها بدقة في صفحات التاريخ الغابر، واستحضـر النقاط المُضيئة فيه، خاصة تلك المُحفّزة على الحرية والانعتاق . وعلّق أحدهم في مقال افتتاحي: «بلادكم أيها اليمنيون عظيمة، فاحرصوا عليها، ولا تُقدّسوا من كان سببًا في شقائها».
وتحت عنوان (ماذا كسب الأحرار في جهادهم؟)، قال كاتبه: «لقد كانت اليمن قبل حركة الأحرار سلعةً رخيصة، مجهولة في يد أفراد غير أمناء، يستطيعون أنْ يبيعوها بأي ثمن، وأن ينبذوها كما ينبذ المتاع الحقير... أما اليوم، فقد عرف العالم أنَّ هؤلاء الأفراد غير أمناء على مصير الشعب، وأنَّ تلك السلعة التي كانت في أيديهم ليست ملكًا لهم، وإنما اغتصبوها وسـرقوها وطمسوا معالمها، حتى لا تعرف نفسها ولا جيرانها، ولكنهم نُكبوا بالأحرار...».
عادت العقرب تبكي
(المُناضل، الشاعر، السياسي) صفاتٌ دائمًا ما اقترنت باسم عبد الله عبد الوهاب نعمان، وما يجهله كثيرون، هو وجود صفةٍ (سلطة) رابعة، لا تقل شأنًا عن سابقاتها. برز اسمه كصحفي وهو في العشـرينيات من عمره، وعلى صدر صحيفة (صوت اليمن) قارع الطغيان بقلمه، وانتصـر للإنسان بفكره، وهو - بشهادة كثيرين - كاتبٌ صحفيٌّ من الطراز الأول، استطاع خلال فترة وجيزة أن يحجز لنفسه مساحةً كبيرةً في بلاط صاحبة الجلالة.
لعبد الله عبد الوهاب نعمان مقالاتٌ كثيرةٌ في صحيفة (صوت اليمن)، كما أنَّ قفشاته الطافحة، وردوده الساخرة، أخذت حيزًا كبيرًا من مساحة أعداد تلك الصحيفة. ومن مقاله المعنون بـ (عادت العقرب تبكي) اقتطفنا: «يرى الناسُ كلَّ هؤلاء الذين شـرّدتموهم وغرّبتموهم، بعد أنْ ملأتم بطونَكم بأموالهم، وأورَيْتُم عَرَقَكم بدمهم ودموعهم، وأشبعتم سياطَكم من ضلوعهم وجلودهم، ثم لم تستحوا - بعد ذلك كلّه - أن تطلبوا رحمةَ الناس، وتتضـرّعوا إليهم، وترجوهم أن يُكذّبوا لكم (صوت اليمن)، ويُكذّبوا معها عيونَهم، وعقولَهم، وضمائرَهم، وأسماعَهم، وأبصارَهم، ويُصدّقوكم بأنّ هؤلاء الشيوخ، والأطفال، والأرامل، والعجائز، والشبابَ، والحمّالين، والمرضى، والمتكفّفين، والمشوّهين، والشحّاذين، ليسوا إلا عصاةً قد هربوا من النعيم، وأنّ بلادَهم جنّة، وأنّكم فيها ملائكةٌ قد هبطتم من الغمام! هذه هي الفضيحة، وهذا هو الخزي، وهذا هو الغرقُ إلى الأذقانِ في الضلال، أيّها الأطفالُ المُسنّون؟!».
وحوت فقرة (من قاموس صوت اليمن) تعريفات صَارخة لخُلاصة الحكم الإمامـي المُتوكلي، ومن ذلك القاموس اقتطفنا: «المُستبد: مخلوقٌ صغيرٌ ضخّمته الجرائمُ. رعايا المُستبد: عبيدٌ مُغفَّلون، يصنعون بأيديهم معبودًا زائفًا يسومهم العذابَ. الزكاة المُتوكلية: قطعٌ من جسدِ الشعبِ المُحتضـِر، ينتزعها الظالمُ كأنّها ميراثٌ له! الحكومة الظالمة: خلاصةُ آثامِ الشعبِ وجرائمه ومخزياته، تحوّلت إلى أداةٍ باطشةٍ مُنتقمة. الشـريعة في اليمن: تجارةٌ فظيعةٌ بآياتِ اللهِ وأحكامِه. المالية اليمانية: شيءٌ محبوبٌ لدى جلالةِ الإمامِ، لا يُفارقه حتى يلقى اللهَ».
شهيد السفاط!
كما دأبت الصحيفة على نشـر الأخبار التي تفضح النظام الإمامـي المُتوكلي، وتُعريه، عبر مُراسلين لها في الداخل، وقد كتب مُراسلها في مدينة تعز خبرًا مُطولًا تحت عنوان: (حادثة مروّعة بين يدي أمير تعز.. وضحية من ضحايا المزاح)، تحدث فيه عن مقتل الحاج محمد علوس.
وقعت تلك الحادثة صباح يوم السبت 30 نوفمبر 1946م، أثناء قيام ولي العهد (السيف أحمد) بإحدى جولاته، وما إنْ وصل الأخير إلى قُرب الباب الكبير، حتى عرّج لينظر بئرًا تُحفَر هناك، وقعد على حافته، وأراد أنْ يتفكّه بصياح علوس؛ وكانت النتيجة نهاية مأساوية لذلك المُهرّج الذي غامر بالنزول إلى قعر البئر. وأضاف المُراسل: «فمات رحمه الله شهيد السفاط والفكاهة».
وختم المُراسل خبره بنقل أغانٍ (مُلالاة) لنساء تأثرن بتلك الحادثة، ومنها اقتطفنا:
جنـى على المــسكين ما بـــــذنــبــه
كيــــــف العقـــاب للسيف عند ربه
يا رحمتاه كيف النســـاء والأطفال
حين يسمعين صوت القتيل ما قال
ليتـك بــدار النصـر صبح ذا اليوم
ولا رموك في البـئـر مثلما الثـوم
وقد تناولت صحيفة (الشعلة) المصـرية ذلك الحادث في عددها الـ 443، تحت عنوان: (نيرون جديد في بلاد اليمن). بعث كاتب المقال رسالة استنجاد إلى الشعوب الإسلامية كلها، وإلى المُلوك والأمراء، وأضاف: «نفزع من ذلك الظلم الصارخ، ونستنجد من ذلك الأمير المُستهتر، الذي أصبحت الأرواح هينة لديه إلى هذا الحد، والذي فاق نيرون وجميع السفاحين الذين يحدثنا عنهم التاريخ».
يُتاجرون مع الصهيونية
ومن نافذة (أخبار مختصـرة) اخترنا هذا الخبر: «صدقوا أو لا تصدقوا... أنَّ صاحب السمو الأمير أحمد في تعز أمر بإخراج 11 طنًا من الحديد المخزون وتوزيعه على الحدادين لعمل أسكاك ومرود وقيود وزناجير وثقالات، وقد أنجز الحدادون ما يقرب من أربعة أطنان ونصف، وأُرسل ذلك فورًا إلى حجة، عاصمة السجون اليمنية».
(يُتاجرون مع الصهيونية)، تحت هذا العنوان، كتبت الصحيفة في عددها الـ 8 خبرًا مفاده أنَّ السيف الحسن صدّر 8,000 قدح من السمسم إلى تل أبيب، بواسطة اليهودي حبشوش. وأضاف كاتب الخبر: «نلفت نظر الجامعة العربية إلى هذه التصـرفات، ونطلب إليها بإلحاح أنْ تمهّد السبيل لتمثيل الشعب اليماني تمثيلًا صحيحًا، قبل أنْ يتآمر سيوف الإسلام مع الصهيونية». وجاء في العدد 21 ما نصه: «إلى حد الآن، وسيل الصادرات اليمنية من زيت وسمن وسمسم يندفع إلى تل أبيب... بالرغم من الانتقادات التي وُجّهت إلى جلالة الإمام من بعض المُفكرين».
وتحت هذا العنـوان: (من أغربِ التصـرفات)، ورد هذا الخبر: «أُطلِق أكثرُ المسجونين في حجة وتعز، بعد أنْ قدّموا أولادَهم رهائـن، واضـطرّوا إلى أن يـزجّوا بهـؤلاء الأطفال الأبرياء في أقبيةِ السجــون، ليتمكّنـوا من السعـي على نسائـهم وأراملهم. وبقي في هذه السجون والمنافي عددٌ قليل، رضوا بالتعب، وفضّلوا البقـــاء؛ لأنّ الحياةَ خـارجَ السجن لا تُغبطُ ولا تُحمَد».
وعن تَحويل مدرسة وجامع الأشـرفية في مدينة تعز إلى مدبغة، جاء هذا الخبر: «وصل في الأيام الأخيرة الأستاذ حسن مصطفى المصـري، المشـرف على مدبغة الجلود التي أسّسها له السيف أحمد في جامع الأشـرفية العظيم بتعز. ويُحتمل سفره إلى صنعاء لتأسيس مدبغةٍ هناك، ربما تكون في صحن الجامع الكبير في العاصمة!».
أين المفر؟
ومن نَافـذة (بـريد الأسبـوع) اخترنا هذه الرسالة: «جاءنا من يماني في تعز رسالةٌ يـقول فيها: 'إنَّ إذاعة صـنعاء قالت في الأسبوع المُنصـرم إنَّ السيــف أحمد عمر دارًا للضيافة تتسع لألف شخص، كما أنَّـه بنى مَـدرسةً في عصيــفرة للصناعة. وكل ذلك كذبٌ صـريح، فليس في اليمن حتى التاريخ دارٌ تتسع لألف شخصٍ وأكثر، إلا سجن (حجة) و(تعز). ثم من أين لليمن كلها ألفُ ضيف، وهي محرّمةٌ على العرب والمسلمين، وقد هجرها السكان وودّعـــها الأبناء؟ أما عصيـفرة، فليس فيـها قط مَـدرسـة، بل مَدحسة، يديرها المدعو أحمد اليهري، وبرنامجها نهبُ أموالِ الرعية للسيف أحمد، وتسخيرُ الناس لزراعة مَزارعه، وإباحةُ المسجد للأثوار (الشـريفة) تأوي فيها!'».
وهذه الرسالة: «جاءنا مقالٌ من م. م، يقول فيه: إنَّ خدير لا تزال في لهبٍ من الشقاء، والشتات، والعذاب، وأنَّ عُكفة السيف أحمد يعيثون هناك ويفسدون، ويهتكون الأعراض، ويروّعون العجائز والنساء والأطفال، وقد بلغت غرامةُ العكفة ليومٍ واحدٍ في قريةٍ لا يزيد عدد سكانها عن سبعة أشخاصٍ 45 ريـالًا».
وهذه الرسالة: «عيّن السيف أحمد حاكمًا للصلو، وأرفقه بستين عكفيًّا، وقطع صـرفهم المقرّر... وخطّطهم في بيوت الرعية التي ليس فيها إلا الأطفال والنساء، أما الرجال فهم مشـرّدون هائمون على وجوههم. وقد كان أهل الصلو ينظرون نصيبهم من الإصلاح الذي سيحدث في اليمن كما زُعم، فكان هذا هو النصيب».
وهذه الرسالة: «وصلتنا كلمةٌ من المواطن أحمد سيف محمد عريقي، يوجّهها إلى أبناء وطنه، ويقول لهم: 'يا أبناء اليمن، أين المفرّ، وقد شـرّدكم الطغاة من بلادكم، وشـرع الناس يضيقون بكم في أوطانهم ذرعًا، فإلى أين تذهبون؟'».
كان الشيخ محمد بن سالم البيحاني من أبرز كتاب الصحيفة، ولم تخلُ أعدادها الأولى من مَقالاته المعنونة بـ (كلمة الإسلام). وقد بعث في العدد الـ 11 رسالة ناصحة إلى الإمام يحيى، ومنها نقتطف: «لقد ساءت الحالة، واتسع الخرق، وتذمّر القريب والبعيد من رعيتكم، لما يُعانون من ظلمٍ لا يُطاق، وعسفٍ وجورٍ لا يُحتمل؛ فبوادر الثورة ظاهرة، ومُقدمة الانفجار صادقة النتائج».
جمعية مُناوئة
وقبل أنْ أختم هذه التناولة، وجب التذكير أنَّ السلطات الإمامـية أوعزت لعملائها في عدن بتأسيس جمعية مُناوئة للجمعية اليمنية الكبرى، حملت اسم (جمعية الشباب اليمني الجديد)، وكان في ظاهرها المُعارضة، والمناداة بالإصلاح السياسي، وفي باطنها مُحاولة استقطاب الشخصيات المُهمة في صف القاضي الزبيري والأستاذ النعمان، وصـرفها عن الهدف النبيل، والهمّ الوطني الجامع.
وكان لتلك الجمعية صحيفة خاصة حملت اسم صحيفة (سبأ). ولم يأتِ اختيار هذا الاسم من فراغ؛ فقد تعمد - حينها - الإمام يحيى وولي عهده السيف أحمد اختيار أسماء حضارية مُشابهة، لمَرافق ومُقتنيات إمامية؛ لاستمالة ذوي النزعة الوطنية من الشمال والجنوب على حدٍّ سواء. وكان من أبرز رموز تلك الجمعية: الشيخ عزيز حمود الزنداني، ومحمد علي طه الهتاري، ومحمد باحميش، ومحمد عبده صالح الشرجبِي، وعمر عوض بامطرف، وأحمد عبد الله عشّيش، وآخرون.
وعن تلك الجمعية وأعضائها، قال المُناضل محمـد علي الأسودي في مذكراته إنَّ ولي العهد أحمد حميد الدين جنَّد شخصًا تافهًا من سقط الشوارع ليفتتح تلك الجمعية، وأضاف: «وكانت لهم مجلة سبأ، يكتبها مجموعة من المُنتفعين من الوضع الإمامـي، وكلها أضاليل وأباطيل ودعاية وإطراء للحكم المُتوكلي وإسلامه، وكان غرضهم التشويش على حَركة المعارضة في عدن».
وذكر الأسودي أنَّ ولي العهد جنَّد - أيضًا - بعض خطباء مساجد عدن، وعلى رأسهم قاضي تلك المدينة الشـرعي المدعو البطاح، لتشويه الأحرار؛ وذلك مُقابل رواتب شهرية مجزية. وأضاف: «ولم يكتفِ هذا الكاهن (يقصد ولي العهد) بامتهان الدين وتسخيره لحكمه الأعوج في الشمال؛ بل امتد برذائله وتضليله إلى الجنوب».













































