اخبار اليمن
موقع كل يوم -سما نيوز
نشر بتاريخ: ٢٧ أيار ٢٠٢٥
في الوقت الذي ما يزال فيه عيدروس الزبيدي يحتفظ برمزية نضالية لدى شريحة جنوبية واسعة، إلا أن الفاعلية السياسية التي كان يمتلكها سابقًا تتآكل تدريجيًا، هناك فرق جوهري بين أن تكون رمزًا تاريخيًا، وأن تظل لاعبًا قادرًا على التأثير في مسار الأحداث، الرسائل الأخيرة لا توحي بوجود مشروع سياسي متجدد، بل تشير إلى محاولات احتواء الانهيار التنظيمي أكثر مما تعكس رؤى لإعادة التموضع الاستراتيجي، الانتقالي اليوم يواجه التحدي الأكبر في تاريخه :
كيف يُحوِّل إرثه النضالي إلى مشروع سياسي مؤسسي قادر على التكيف مع متطلبات الدولة وشروط الإقليم ؟ فالفارق كبير بين خطاب المقاومة، وخطاب الدولة، وبين التعبئة الجماهيرية وإدارة شبكة تحالفات سياسية دقيقة، وقد يكون أحد أسباب التراجع أن المجلس لم يُحدث التحوّل البنيوي الضروري من 'حركة احتجاجية مسلّحة' إلى 'فاعل سياسي مؤسسي ناضج' .
في هذا المناخ، يبدو أن المشهد يعيد تدوير أسماء ومشاريع سياسية ظلت لعقود جزءًا من معادلة صنع القرار اليمني، مثل حزب المؤتمر، أو شبكات المصالح القبلية والاقتصادية المرتبطة بالمركز التقليدي في صنعاء، التحالف الإقليمي يعيد ترتيب أدواته، ويفضل لاعبين أكثر واقعية وأقل إصرارًا على تفكيك البنية اليمنية الموحدة، وهذا يفرض ضغطًا صامتًا على مشروع الاستقلال الجنوبي الذي يتبناه المجلس الانتقالي، فالعواصم الفاعلة لم تعد تتحرك بمنطق العاطفة أو الدعم الأيديولوجي، بل وفق حسابات مصالح صلبة تبحث عن كيانات مرنة، قادرة على التعايش داخل بنية الدولة، حتى وإن بصيغة مختلفة. من هنا يمكن فهم التحوّل نحو طارق صالح، الذي يمثل نموذجًا وسطًا بين قوة ميدانية وعقل سياسي متكيف مع الأولويات الإقليمية .
ومما زاد الطين بلة، أن المجلس فشل في بناء تحالف جنوبي واسع يضم مختلف المكونات السياسية والاجتماعية، واكتفى بخطاب أحادي النبرة تمركز حول قيادة واحدة ومشروع واحد، دون مراعاة التعدد الجنوبي القائم فعليًا على الأرض، هذا النهج جعل منه كيانًا معزولًا نسبيًا، وسهّل على خصومه الإقليميين والداخليين تقويض مشروعيته مع الوقت، تعددية القوى الجنوبية اليوم لا تأتي كنتيجة لتطور ناضج، بل كرد فعل على احتكار الانتقالي للمشهد، وتقصيره في احتضان الجنوب بتنوعه وتعقيده .
بعيدًا عن الشعارات السياسية، فإن العجز المزمن في تقديم نموذج إداري فعّال في عدن وغيرها من مناطق سيطرة المجلس، شكّل ثغرة قاتلة، المواطن الجنوبي الذي راهن على الانتقالي، لا يرى اليوم تغييرًا ملموسًا في الخدمات أو المعيشة، وهذا السخط الصامت أخطر من أي خطاب معارض، فالفراغ الذي تركه المجلس في مؤسسات الدولة سمح بظهور طبقة من الوسطاء المصلحيين الذين استغلوا هذا التآكل لتحقيق مكاسب شخصية، على حساب المشروع السياسي الكلي، الشرعية لا تُستمد من الميدان فقط، بل من قدرة الكيان على تحسين حياة الناس، وهذا ما تراجع فيه الانتقالي بشكل لافت .
أما على صعيد العلاقات الإقليمية، فإن المجلس يجد نفسه اليوم في منطقة رمادية بين طرفين داعمين غير متوافقين بالكامل، فبينما تبقى أبوظبي حليفًا رئيسيًا، إلا أن دعمها بدا أكثر انتقائية وترتبط به حسابات داخلية وخارجية معقدة، في المقابل، تتحرك الرياض من زاوية أوسع، وتتبنى مشروعًا توحيديًا أكثر اتساعًا لا يتوافق تمامًا مع أطروحة الانفصال، هذه الضبابية تُصعّب على الزبيدي والمجلس اتخاذ موقف استراتيجي واضح، وتفتح الباب لتقليص نفوذه تدريجيًا دون إعلان صريح .
الرسالة الأهم في تحولات اللحظة الراهنة هي أن زمن 'القوة الجنوبية الواحدة' قد انتهى، والمستقبل يتجه نحو تعددية سياسية تتنافس على التأثير والشرعية، وهذا يفرض على الانتقالي أن يعيد تعريف نفسه ضمن هذا الواقع، لا كممثل وحيد، بل كمكوّن ضمن خارطة أكثر تعقيدًا وتعددًا، المرحلة المقبلة لن تكون لمن يرفع الشعارات الأعلى صوتًا، بل لمن يستطيع التكيف، وبناء شراكات متزنة، وإعادة تقديم نفسه كجزء من حل شامل، لا كأداة صدام دائم .
الفرص لا تزال قائمة، لكن الوقت ليس مفتوحًا بلا سقف، من سيبقى ؟ من سيتراجع ؟ ومن سيتحوّل من رمز إلى لاعب ؟
كل هذه الأسئلة أصبحت على الطاولة، والأجوبة تُصاغ حاليًا لا في البيانات، بل في كواليس المفاوضات وميدان الأداء .