اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٨ حزيران ٢٠٢٥
كمال القاضي*
ربما هي المرة الأولى التي يستلهم فيها الكاتب الروائي خالد إسماعيل، عوالمه الإبداعية الخاصة من رسائل البسطاء الذين يُخاطبون فيها أولياء الله الصالحين ويودعونها في صناديق خاصة داخل الأضرحة، لقد اختار الكاتب من بين الأولياء، الإمام الشافعي ليكون رمزاً لارتباط العامة من أصحاب الحاجات، بمن يعتقدون في كراماتهم ويلجأون إليهم وقت الضيق لينالوا بركتهم وتُقضى مصالحهم وتُحل مشاكلهم.
وجهة جديدة يذهب إليها مؤلف رواية «أبو القمصان» في تنويع مُختلف ومُفاجئ على هموم أهل الجنوب في صعيد مصر، ذلك المُجتمع الزاخر بالأحداث والثقافات، الذي دأب الكاتب على الغوص في أعماقه والتفتيش في تراثه الاجتماعي والإنساني، بوصفه واحداً من أبنائه والأقدر على تصويره روائياً، فهو العليم بأسراره وأغواره والمُطلع على خلفيات الحياة فيه بما تحمله من تفاصيل كبيرة وصغيرة.
في رواية «أبو القمصان» لم ينشغل خالد إسماعيل كعادته بحكايات الثأر والدم، وإنما انشغل هذه المرة بالأعراق والأنساب، وتتبع نسل الشخصيات والأبطال الذين انحدروا من بلدان بعيده وانتموا إلى بطون وعائلات من خارج المدار المحلي الجنوبي على امتداد القارة السمراء. وقد ركز إسماعيل في جزء كبير من روايته على التصنيف القبلي والاجتماعي، وفق ما كان معهوداً في الأزمنة السابقة الغابرة، حيث تقسيم الناس إلى فئات، بعضها سادة وبعضها الآخر عبيد، كأنه يُجذّر أصل العائلات ومواطنها الحقيقية تبعاً للتوزيع الجغرافي للدلالة على كُنيتها ولغتها ومرجعيتها الثقافية والبيئية. ويُلاحظ من سياق ما كتب المؤلف تأثره بالسيرة الهلالية، وما تنطوي عليه من حكايات وبطولات شعبية، ويُستنتج ذلك من بعض الإشارات التي وردت عابرة في روايته «أبو القمصان»، وأولها عنوان الرواية ذاته الذي يُشير إلى شخصية رئيسية في السيرة الهلالية. بيد أن خالد إسماعيل كروائي، عمل على الاستفادة من التراث الشعبي المُتصل بهذا الجانب، دون أن ينقله حرفياً أو يُحاكيه، لكنه استخدمه في الاستدلال على فكرة العنصرية المقيتة التي عانى منها المُجتمع الجنوبي في مصر منذ عدة قرون، وظلت باقية حتى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، فالباشا والبك والحاشية لا يشبهون عامة الناس، فهم المُتميزون شكلاً وموضوعاً، حسب التصنيف الطبقي القائم حينئذ على مُعطيات الحسب والنسب والجاه والسُلطان!
يُشير الروائي خالد إسماعيل إلى مآسي الأجراء والخدم العاملين في بلاط السادة والوجهاء، فأشد ما يؤلم هو تأقلم أبناء الطبقة الفقيرة المطحونة مع الظروف القاسية، واستسلامهم لحياة العبودية ورضاهم بالهوان، باعتبار ذلك قدرا إلهيا لا حيلة لهم فيه، استناداً إلى قول الله تعالى وخلقنا بعضكم فوق بعض درجات، دون محاولة لتفسير الآية الكريمة والوقوف على معناها الصحيح في السياق الذي وردت فيه.
ويستوحي الكاتب من التراث الاجتماعي والثقافي، ما يُضيف لعالم الرواية العربية والمصرية الكثير من الثراء الإنساني والفهم الميثولوجي لطبيعة المُجتمعات الشرقية، وما يُميزها من حكايات وأساطير وعادات وتقاليد، كما يُسقط الكاتب أيضاً على الواقع المُعاصر ما يشغله من قضايا راهنه تتصل بالسياسة والثقافة، ومُتغيرات العصر الحديث التي تفرضها الطفرات العلمية وتأثيراتها القوية. ومن بين ما يُعزز قيمة الرواية على المستوى الأدبي والمعرفي، تلك التحولات الاجتماعية والثقافية التي يرصدها الكاتب ويُضيء بها عقل القارئ، إذ يُطلعه على مخابئ البيئة الجنوبية وخصوصيتها التاريخية، كالأسماء والكنايات وطبيعة الشخصيات، بمضامينها وتلقائيتها وبساطتها وطيبتها، وما تنطوي عليه من تناقضات، فهي في الوقت ذاته حادة وقوية وشريرة وعنيدة وغائرة ومتآمرة. كل هذه محتويات الشخصية الجنوبية، الجديرة بالدراسة والتنقيب والتعليل، فلا ثراء بغير تنوع، وهو المعنى الذي قبض عليه خالد إسماعيل وصنع منه خلطته الروائية المُدهشة، وصاغه في صور شتى لشخصيات وأحداث وأماكن ومستويات درامية، تراوحت ما بين الغلظة والفظاظة والنفور، كما في العلاقة بين الأب الأزهري المُعمم «سعيد جوهر أبو القُمصان»، المُتمسك بالعادات والتقاليد، وابنه الجامعي المُثقف الجامح، المُتمرد الرافض للاستبداد الأبوي والسُلطة القمعية.
كذلك أماط صاحب الرواية اللثام عن علاقة أخرى رومانسية، بدأت بالمودة والإعجاب المُتبادل بين «ناهد الصياد»، الفتاة المُتعلمة المُتحررة، سليلة العائلة الأرستقراطية، وبطل الرواية الشاب المُثقف الطيب، وانتهت بجريمة قتل بعد أن اكتشف البطل خيانة ناهد له مع أعز أصدقائه «يونس الهلالي»، وأسدل الستار على قصة الحُب العاطفية، التي تأسست على الانتهازية وعدم التكافؤ الاجتماعي فآل مصيرها مآلاً مأساوياً، ليُغلق خالد إسماعيل القوس على العديد من الحكايات والمُفارقات، وآيات الظُلم والبؤس التي عانى منها أبطال روايته الإنسانية الشجية «أبو القمصان».
*كاتب مصري