اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
عبد الله جنّوف*
لم تكن لعظيِّمْ معرفة بالحمير ولا خبرة بسياستها إلّا ما يلتقطه من أهل قريته. ولكنْ أعجبه ما يرى من صبرها وقوّتها على الحمل والجرّ وطاعتها لسيّدها، وشجّعه آخرون، فاشترى حمارًا فارِهًا وربطه تحت شجرة كبيرة في أرضه. لم يكن الحمار يستطيع رفع رأسه تحتها لكثرة شوكها وقسوته، ولكنّه كان ينعم بظلّها الوارف. فإذا ألحّ عليه النهيق ورفع رأسه لسعه الشوك، فيكبت نهيقه في جوفه ويطأطئ. حتّى عظيِّمْ كان ينحني تحتها بحذر، مرعوبًا من شوكها، ويقف كلّ يوم في فجوةٍ منها بجانب حماره يربّت على ظهره وذيله، ويمسح رقبته ويعرك أذنيه، ويجذبهما برفق.
اهتدى عظيِّمْ بعد عِشرة وخبرة إلى أنّ لسان الحمار في أذنيه وذيله. فكان يأتيه في أحسن ساعات صفاء ذهنه، يحكّ ظهره ويفلي شعره، ويمسح بطنه كلّه، ويدلّك قوائمه، ويطعمه في يده ويُهَدْهِده... ويراقب أذنيه كيف تنتصبان وتسترخيان، ومتى تذهبان معًا إلى الأمام والخلف، ومتى تفترقان شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا. ثم أقعى خلفه، ينظر إليه كيف يمسح الهواء بذيله، ومتى يرفعه، ومتى يضرب به. أخذ رأسه بين يديه، وحاول تحريك أذنيه لعلّه يفهم بالقياس كلام حماره، فلم يجد شبهًا واضحًا بين الرأسين، فيتمتم: 'لا تأويل لهدوئه وحركة أذنيه وذيله إلّا الطاعة والحب، لا تأويل'. وكانت زوجته تراه يقتصد في إطعام حماره ويكثر من تدليله بالكلام، فتوبّخه وتحذّره من صبر الحمير... فلم يكن يزيد على ترديد جواب واحد لا يغيّر منه حرفًا: 'كاد الإشفاق أن يكون تآمرًا، والكلام علف يا جاهلة'.
اتّسعت خبرة عظيِّمْ، فعرف أنّ الحمير كالبشر تحبّ الثناء وتنشط به وتعشق سيّدها، فبالغ في الثناء عليه، وجعل يتعلّق بعنقه، ويقبّل غرّته وأنفه، ويمنّيه بتقليم قدر ذراع من الشجرة بإزاء رأسه، ثمّ علّق في عنقه جلجلًا، ووضع على ظهره بردعةً وثيرة، وركبه يجرّبه قرب بيته... انشرح الحمار فمشى مطمئنًّا، وأعجبت الرِّكبة عظيِّمْ، فأغمض عينيه وهزّ برأسه على قرع حوافره. وزوجته واجمة تنظر إلى الحمار يمشي ويركض ويحرّك رأسه. ورأت زوجها أسعد بالجلجل من الحمار، وكلّما مرّ بها قال شامتًا: 'كاد الإشفاق أن يكون تآمرًا'، فلا تجد ما تقول. ولمّا أراد العودة به إلى الشجرة، اندفع الحمار بسرعة وحش. اختلط وجه عظيِّمْ بشوك الشجرة، وسقط محطّمًا على الأرض، وزوجته تولول وتصيح: قد حذّرته مرارًا من صبر الحمار، وقلت له إنّ الحمير يسكتها العلف لا الكلام.
*قاص تونسي