اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ١٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
صبحي حديدي
حلّت قبل أيام الذكرى الـ 100 للمعرض التشكيلي الفريد الذي افتُتح يوم 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1925 في «غاليري بيير» الباريسي، وضمّ عدداً من الأعمال لـ 14 فناناً لن يطول الوقت حتى تتصدر أسماؤهم الواجهات الكبرى العالمية لمدرسة جمالية وفكرية سوف تستقرّ تحت مسمى السيريالية: بابلو بيكاسو، ماكس إرنست، خوان ميرو، جورجيو دي كيريكو، مان راي… كان ظلّ الشاعر الفرنسي أندريه بروتون، مؤسس الحركة ضمن اعتبارات عديدة، ينسدل لتوّه على مناخات المعرض، لكنه سوف يصبح أطول وأوضح خلال معرض ثانٍ لاحق مطلع العام 1938، وسيحمل هذه المرّة الاسم الصريح: «المعرض الدولي للسوريالية». كذلك كانت الرعاية صريحة، من بروتون نفسه والشاعر الفرنسي بول إيلوار، وجهات استشارية لا تقلّ وضوحاً في سورياليتها، أمثال سلفادور دالي ومارسيل دوشامب.
وهذه السطور تتوقف اليوم عند ذلك الحدث ليس لإحياء الذكرى، في مستويات تشكيلية وجمالية وسياسية وثقافية وتاريخية تليق بها؛ بقدر ما تستعيد جانباً خاصاً في حياة الحركة السيريالية، هو حضور (وبالتالي أيضاً: غياب/ تغييب) النساء. وذلك رغم حقيقة ساطعة كبرى تقول إنه، باستثناء وحيد هو التيّارات النسوية المختلفة، ما من حركة أدبية أو فنّية أو فكرية تتفوّق على السيريالية في التفاخر بالعدد الكبير من النساء اللواتي انخرطن في صفوفها، منذ سنوات التأسيس الباريسية في عشرينيات القرن المنصرم. ذلك أيضاً لأنّ التاريخ الأدبي لم يكترث كثيراً بدور النساء في التأسيس والتكوين والصياغات، واكتفى بالنجوم الكبار (أبروتون، ألفريد جاري، بنجامين بيريه، جاك فاشيه)؛ ومَرّ عَرَضاً على دور ليونا كامي جيزلين د. (التي ستُعرف باللقب الأشهر: ناديا)، والأرجح أنّ سبب الاهتمام الأوّل أتى من حقيقة أنها كانت صديقة بروتون وموضوع واحد من من أبرز أعماله.
وفي هذا السياق قد تصحّ الإشارة إلى جهد انفرادي سعى إلى تسجيل دور النساء السورياليات، وإنصاف حضورهنّ، هو كتاب بنيلوبي روزمونت «نساء سورياليات: أنطولوجيا عالمية»، 1998، بالإنكليزية، الذي استهدف تصحيح الموقف الانتقاصي من دور المرأة في الحركة السيريالية. منهجية روزمونت توزعت على مقاربتين، الأولى هي تشكيل أنطولوجيا أشبه بديوان جامع يتضمن 300 نموذج معياري، اختيرت من أعمال 97 امرأة سوريالية، من 28 بلداً (نصوص نثرية وشعرية، و»نصوص ميكانيكية»)؛ ونصوص سردية، (ألعاب لغوية)، وبيانات جمالية وفكرية، ورسوم وتخطيطات وصُوَر فوتوغرافية. المقاربة الثانية هي تقديم قراءة نقدية معمّقة لهذا الجانب المهمَل من تاريخ الحركة السيريالية، سواء عبر التعريف بإبداع النساء السورياليات، أو عبر ربط نتاجهنّ بعدد من التطوّرات الجمالية والفكرية والتاريخية والسياسية التي طرأت على الحركة بصفة خاصة، وعلى المشهد العالمي بصفة أعمّ.
وفي مقدّمة تمزج بين التأمّل النظري والتوثيق التاريخي، تسجّل روزمونت جملة ملاحظات ثاقبة حول ما تعنيه السيريالية بالنسبة إليها، فتبدأ مباشرة من المغالطة الشهيرة التي تقول إنّ السيريالية لا تكترث بالواقع، أو ترفض قبول الواقع، أو تنكر وجود الواقع. السيريالية، في نظرها، لا تلحّ على شيء قدر إلحاحها على المزيد من الواقع، على الواقع الأعلى، على «الحقيقة الحقيقية»؛ وتبدأ من الإقرار بأنّ الواقع الفعلي ينطوي على عناصر متعدّدة متنوّعة يتمّ قهرها وقمعها في سياق الأنظمة الاستغلالية المفتقرة إلى مبدأ المساواة. وفي ارتكازها على الحلّ الجدلي للتناقض بين الوعي واللاوعي، تذهب السيريالية صوب وعي أعلى مفتوح وديناميكي، لا يُطرد منه أيّ جانب من جوانب الواقع.
كذلك تشدّد روزمونت على أنّ السيريالية كانت وليدة تأثيرَين أساسيين: الاتجاه الشعري المضاد الذي مثّله لوتريامون وألفرد جاري وجاك فاشيه، والاتجاه التحريري الذي مثّلته نظريات سيغموند فرويد. هذان التأثيران تآلفا حين حاول بروتون وزملاؤه (وكان معظمهم من طلبة كلية الطبّ، مثله) استخلاص النتائج من التجارب البَوْحية في «الكتابة الأوتوماتيكية» والإفصاح أثناء التنويم المغناطيسي، وهي التجارب التي وضعت الأفكار الناجزة عن «الواقع» محلّ مساءلة راديكالية. و»الثورة السيريالية»، كما يقول اسم المطبوعة السيريالية الأبكر والأشهر، نهضت على هذا المبدأ في استبطان أغوار الوعي، وفي تأكيد «العجيب»؛ أي إنتاج الصور اللاعقلانية التي تقلق ركود الوعي وتهزّ أركان السُبل الوضعية والتقييدية في التفكير والوجود، ثم استفزاز الآخرين لكي يقاربوا ويقارعوا هذا «الواقع الداخلي» وعلاقاته بالعالم الخارجي.
و«الثورة السيريالية» المبكّرة حاولت النأي عن السياسة والتسييس… طوال أشهر معدودات فقط في الواقع؛ وذلك لأنّ انتفاضة القبائل في الريف المغربي عام 1925 قادت السورياليين الأوائل إلى إعادة النظر في دلالات الافتقار إلى موقف سياسي في الجوهر، ومدى الحاجة إلى التحويل الثوري (والمادي) للمجتمع بأسره. ولقد انتقل السورياليون الأوائل من فيخته إلى هيغل، ثم بعدئذ إلى ماركس ولينين وتروتسكي. وقراءتهم للفكر الماركسي ظلّت منفتحة على التيّارات التجديدية (مدرسة فرانكفورت، عند هربرت ماركوز وتيودور أدورنو)، وإقامة صلات وثيقة مع ماركسيين مستقلين أمثال والتر بنيامين، رايا دوناييفسكايا، وسي. ل. ر. جيمس.
مصائر السيريالية، بعد 100 سنة، يمكن تلمّسها عند زيارة متحف بيكاسو اليوم، أو قراءة شعر لوي أراغون اللاحق، حيث التحوّلات ليست كبرى وحاسمة، فحسب؛ بل هي أحياناً أقرب إلى قطيعة، وانطواء صفحة.













































