الرعب مرآة للواقع في رواية «حفّار القبور» للأردني علي الخرشة

موسى إبراهيم أبو رياش*

يُعرَّف أدب الرعب بأنّه نوع من الفنون الأدبية، يهدف إلى إثارة الرعب والخوف، ويعتمد على التخييل والإثارة والتشويق، وتشابك الأحداث وتعقدها وغرائبيتها. وهو أدب ضارب في أعماق التراث الشعبي الشفاهي، بما فيه من حكايات اعتمدت على عالم الجن والأساطير والكائنات الغريبة وغيرها. أدب منتشر في كل بقاع الدنيا، وتأثر الأدب المكتوب بذلك أيضا، بما في ذلك الأدب اليوناني وملاحمه وقصص الآلهة. وفي الأدب العربي فإنَّ «ألف ليلة وليلة» أكبر سجل لأدب الرعب، بما حفلت به من حكايات مخيفة وغريبة، وتناثرت حكايات الرعب في كتب الأدب والرحلات والملاحم الشعبية.

وقد ظهر جيل من الشباب العرب يكتبون في أدب الرعب؛ لأنّه أقرب إلى طبيعتهم التي تبحث عن المثير والغريب، ويلامس رغبات الشباب والمراهقين؛ لما يوفره من متعة وتشويق، وأحداث عجيبة مدهشة، وتطلع الشباب إلى أدوار البطولة، واقتحام المجهول، وجلاء الغموض، والهروب من الواقع، والعيش في عالم بديل مؤقت.

ويُعد أدب الرعب وسيلة فنية عميقة للكشف عن مخاوف الإنسان المكبوتة، واستدعاء الأسئلة الوجودية، وتفريغ التوتر النفسي من خلال التخييل. وتذهب رواية «حفّار القبور» بالرعب بعيدا عن الصورة التقليدية، نحو رعب نفسي وفلسفي وساخر، ينبش في الوعي واللاوعي، ويطرح تساؤلات عن الهوية والوطن، والإنسان والجنون، والموت والحياة.

لا تقدم الرواية «الرعب» بوصفه مادة استهلاكية للتسلية العبثية فارغة المضمون، بل تدمجه بسخرية سوداوية ونقد اجتماعي لاذع، حتى يسأل البطل: «مَنْ يرغب في قراءة قصة مثل هذه؟». ولم تقدم الرعب من أجل الرعب، دون هدف أو غاية، بل جاء الرعب لتعرية الواقع بما فيه من تشوهات وخلل وفساد، جاء أشبه بصعقة كهربائية قد تعيد الحياة لجسد يصارع من أجل البقاء.

الحكاية

تحكي الرواية قصة «مصطفى عيّاد»، المهندس المعماري شكلا، ومنظف الغرف والحمامات واقعا وحقيقة، الذي ينتهي به الأمر في مستشفى للأمراض العقلية، زاعما أنّه «مات أكثر من سبع مرات». تبدأ الأحداث بمراهنة غريبة مع صديقيه طارق وكامل، يطلبان منه أن ينام ليلة في قبر شخصية شعبية أقرب إلى الجنون، أو العته تدعى «أبو لحاف»، مقابل دفع رسوم جامعته ومصروفه حتى التخرج. تنقلب الأمور رأسا على عقب بعد هذه الليلة؛ إذ يدخل مصطفى في متاهة زمنية وفكرية تجعله يُتهم بأنّه أبو لحاف الجديد، وتتوالى الأحداث المرعبة وسط تشويش زماني ومكاني يمسخ واقعه، ويختلط الواقع بالخيال، والعقل بالجنون، والعلم بالأسطورة.

جاء النوم في قبر «أبو لحاف» بداية لسلسلة من الأحداث والاكتشافات والمغامرات المرعبة، في سبيل بلوغ الغاية الحلم، التي فتحت على مصطفى وصحبه عش الدبابير والملاحقات والضغوطات، التي أدت إلى التعذيب والقتل وشراء الذمم والخيانة.

كُتبت الرواية على لسان الراوي الأول (الكاتب أيمن ياسين)، وتمزج بين السرد التقليدي واليوميات والمونولوج، ما يمنح القارئ تقلبا بين مشاهد واقعية وخيالات وهلوسات. كما أنَّ الكاتب استخدم التقطيع الزمني، والمقاطع القصيرة بأسلوب أشبه بمشاهد سينمائية، وهذا يتوافق مع عقدة الرواية الأولى للتوصل إلى فكرة مسلسل ناجح.

السخرية والنقد اللاذع

تسري روح السخرية اللطيفة الهادئة أحيانا، والسخرية السوداوية المدويَّة أحيانا أخرى في تلافيف الرواية من أولها إلى آخرها، ونلمس ذلك سواءً في حديث الكاتب أيمن مع قطه مشمس، أو في مشهد رعب يحبس الأنفاس. فالسخرية هنا ليست للعبث، أو لمجرد السخرية والإضحاك، بل إنها موقف ضد ما يمور به المجتمع والحياة من اختلالات ومشكلات وتناقضات لا يُمكن تفسيرها أو تقبلها. والسخرية هنا سلاح وعي وتمرد للتعبير عما يعتمل في النفس من ضيق واحتجاج وكبت ورفض لما يحدث ويدور، ولا يستطيع أن يقوم بفعل للتغيير. ومن أمثلة السخرية، يقول مصطفى: «ماذا يعني أن تذهب للمقبرة؟ من يخاف من الأموات؟ الأحياء هم من يخيفونني». وتكتب فاطمة لأبيها الكاتب أيمن قائلة: «ماما اشترت لنا كلبا سميناه أيمن لنتذكرك يا بابا.. تعالَ وأحضر معك مشمش ليلعب مع أيمن.. أيمن الكلب».

كما مارست الرواية نقدا لاذعا للمجتمع والمؤسسة التعليمية والحياة المعاصرة، مثل حديث مصطفى عن جامعته التي أعطته شهادة من ورق، بينما يعتبره الناس «حفّار قبور». كما تهاجم الرواية استغلال الأصدقاء وخيانتهم، وفساد العلاقات، واللعب على أوتار الضعف الإنساني، كما يظهر في مساومة مصطفى على كرامته مقابل المال «سأعطيك هذا الشيك ولكن بشرط، أن تذهب الآن إلى المقبرة وتنبش قبر أبي لحاف، وتنام في قبره حتى أذان الفجر». ومن الأمثلة المؤلمة على النقد اللاذع على لسان مصطفى: «ماذا عنك يا حفّار القبور؟ أليس لك وطن تشتاق إليه، أم إنّ قساوة من باعوه جعلتك تقسو عليه؟ أنت تلوم الوطن على مَنْ ذبحوه، وكأنّه قال لهم تعالوا واطعنوني بخناجركم المسمومة، إنّك تقسو عليه يا حفار القبور وتلومه، والمفترض أن يلومك هو على تقصيرك معه. أين كنت حين تسلل الفُجار ليلا ودسُّوا في طعامه السم؟ أين أنت حين تآمروا عليه وعقروه؟ أنت الآن تسمع أنَّاته إذ يشكو أوجاعه وآلامه.. لكنك مثلهم، تستغشي ثيابك وتضع أصابعك في أذنيك. إنّك أيها الأحمق تُغمض عينيك وتدعي أنَّ الوطن بخير، لكنك تعرف أنّه ليس بخير، وأنّك في يوم، تظنه يوم عيد، سترتدي أجمل ما لديك وتذهب لتسلم عليه في الغرفة المجاورة فتجد السرير فارغًا، وحين تسأل أين راح الوطن؟ فلن يعرف أحد أين راح. وستسأل هيئة الأمم عنه يا ولدي، وسيخبرونك أنّه لا بُدَّ من تسوية تُرضي الجميع.. لكنك لن ترضى؛ لأنّك تعرف أنّك في يوم أضعته وأنت بكامل قواك.. ما أغباك!».

وحفلت الرواية برؤى فكرية وفلسفية تكشف عن ثقافة كاتبها وانشغالاته، ومن أمثلة ذلك: «إننا نحمل نعشنا على ظهورنا». «المال دواء كل شيء». «لا يجبر الرجل على قطع المسافات وبذل المغامرات إلا امرأة». «لا ينام على كتفك إلا من يثق بك». «صفقتي مع الذئب، لا تعني أني صرت صاحبه». ولعل المفارقة الرئيسية في الرواية أنّ «مصطفى عيّاد» وهو الأفقر بين شخصيات الرواية الرئيسية، والأشد حاجة وفاقة، والأكثر فاعلية فيها، رفض كل المغريات والضغوط والتهديدات لتسليم خريطة المدينة الذهبية، فيما استسلم رفاقه وخانوه وباعوه، فكان عاقبته مستشفى الأمراض العقلية، وفي هذا دلالة رمزية عميقة لا تخفى على أحد، وهذه وصية العراف شفشنكو لمصطفى: «لا تخُــن يــا مصطفــى، إنّ مــا أضــاع المدينـة فيـما سـلف أنّ أصحابهـا خانـوا، وكل خائـن تنبـذه المدينـة ولـن تسـتقبله، اسـتمر بقلبـك النقـي، ولا تجعـل حقـدك وكرهـك يلوثانـك، وتذكـر؛ المدينـة لا تحـب الخائنـين».

حبكة الرواية ولغتها

تقوم حبكة الرواية المركبة على تداخل المستويين الواقعي والمتخيل، حيث يبدأ مصطفى الراوي بقصة «رهان القبر»، ثم تبدأ مفاصل الرعب والغرابة بالتصاعد، حين يدخل إلى المقبرة، لتبدأ معها مشاهد متتابعة من التغيرات الزمكانية والهوية، الحبكة غير خطية، تنكسر فيها التسلسلات الكلاسيكية. وقامت هندسة الرواية على ثلاث دوائر متفاوتة، يُشكل «مصطفى عيّاد» مركزها أو محورها، ويُمكن أن نعدها شكلا من أشكال الماندالا؛ حيث تشكلت الدائرة الأولى وهي الأصغر من الكاتب الدرامي أيمن ياسين، الذي هجرته زوجته وعادت إلى بلدها أمريكا رفقة أطفالهما، ولم يبق له إلا قطه مشمس ينادمه ويشكي له حاله. كما أنّه يُعاني من عسر في كتابة مسلسل جديد مطلوب بإلحاح من المنتج، ولم ينقذه إلا رسالة بريد إلكتروني من «مصطفى عيّاد» حملت قصة مثيرة وفكرة رائعة للمسلسل المطلوب.

الدائرة الثانية، وهي الوسطى، أبطالها: مصطفى عيّاد وطارق وكامل وفلفل والدكتور فاخر، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، وهي الدائرة التي حفلت بالسخرية والنقد اللاذع لكثير من القضايا الاجتماعية والتعليمية والفكرية، ومن الصراع الدائر فيها، ينتقل القارئ إلى الدائرة الثالثة وهي الأوسع والأكثر إثارة ورعبا وحركة وتطورا وتنوعا على مختلف الصعد، من حيث الزمان والمكان والشخصيات والهويات والثقافات والخيال وغيرها، والتي تسعى لمعرفة مكان مدينة «ماسازينا» الذهبية. وبطل هذه الدائرة أيضا «مصطفى عيّاد» بشخصياته المتعددة، حسب مقتضى الحال.

اعتمدت الرواية اللغة العربية الفصيحة وأحيانا المحلية الأردنية، وتميزت بوضوحها وبساطتها وجمالها، دون تقعر أو تكلف. ووظف الكاتب ببراعة النص القرآني وكلمات الأغاني، وثقافته الأدبية والسينمائية، والأمثال والأقوال، بالإضافة إلى تخصصه في طب الأسنان. أبدع الكاتب في نسج خاتمة الرواية، التي جاءت مفتوحة على كل الاحتمالات؛ فقد يراها البعض مغلقة وواضحة، وربما يراها فريق آخر أنها مفتوحة على مصراعيها مؤذنة بجزء ثانٍ، وربما أجزاء عديدة، ولعل ظهور الكاتب أيمن وقطه مشمس في بحيرة طبريا يرمز إلى المخلص والخلاص، لما تحمله البحيرة من رمزية في السرديات الإسلامية وغير الإسلامية.

وبعد؛ فإنّ «حفّار القبور» للكاتب الأردني علي الخرشة، الصادرة في القاهرة، عن الشركة العربية الحديثة عام 2023، رواية جريئة، تمزج بين الفانتازيا والرعب والواقعية الاجتماعية. ذات بناء سردي متشابك وممتع، ولغة حيوية جذابة معبرة ومليئة بالتلميحات الساخرة، والمواضيع المطروحة تضع القارئ في مواجهة مع الذات والمجتمع، مليئة بالرسائل الفلسفية والإنسانية عميقة الدلالة. ولا بُدّ من الإشارة إلى أنَّ رواية «حفّار القبور» لعلي الخرشة تتفوق بمراحل من حيث الشكل والمضمون واللغة والعمق على كثير من الروايات الرائجة التي تنتسب لأدب الرعب، وهي فارغة المضمون متواضعة المستوى، ومطلوب من الخرشة أن يكمل مشروعه الروائي في أدب الرعب المغمس بهموم الإنسان وتطلعاته، مع المحافظة على المستوى الذي ظهرت به روايته موضوع المقالة، مع ضرورة أن تكون الروايات أقصر؛ فهذا أدعى للقراءة، وأقرب لروح الإبداع.

*ناقد أردني