لايف ستايل
موقع كل يوم -في فن
نشر بتاريخ: ١١ أيار ٢٠٢٥
* د.أحمد مجدي ناقد وعضو هيئة تدريس بقسم الدراما والنقد المسرحي بكلية الآداب جامعة عين شمس
في رؤية جديدة مغايرة لطبيعة أفلام الرعب التقليدية والسائدة التي تعتمد على إراقة الدماء وظهور الأشباح والوحوش من العوالم الأخرى، صدر فيلم الرعب النفسي 'امرأة في الفناء woman in the yard' وهو من إخراج جومي كوليت سيرا Jaume Collet-Serra.
منذ الوهلة الأولى تشعر بالتوتر النفسي عندما ترى مكان الحدث، وهو عبارة عن منزل كبير يمتد على مرمى البصر داخل إحدى الأراضي البعيدة المنعزلة، ويعيش داخله امرأة تدعى رامونا (تلعب دورها دانييل ديدويلر Danielle Deadwyler) وطفليها أني وتايلر، وذلك بعد موت الأب في حادثة سيارة، ويبدو أن المُخرِج أراد أن تظل هذه الحادثة هي مُحرك القصة بأكملها والنقطة المرجعية التي سوف تفجر مفاجئات لاحقة، فعمل على إظهار سيارة الزوجين محطمة في الخارج لكي يشاهدها الجمهور في معظم لقطات الفيلم. وما يزيد حدة توتر الأحداث ظهور الأم رامونا في حالة يرثى لها وهي تضع مجموعة من الضمادات على قدمها المصابة، لنتكهن أنها كانت تستقل السيارة مع زوجها قبل أن يلقى مصرعه في تلك الليلة المشئومة، التي شكًلت تحولًا في حياة الأسرة.
تتصاعد الأحداث بشكل أكبر عندما تظهر امرأة غامضة (تلعب دورها أوكوي أوكبوكواسيلي Okwui Okpokwasili) لا يظهر وجهها أبدًا، فهي تتشح بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها، تجلس على مقعد في فناء منزل رامونا، تراقب المنزل من بعيد في صمت، وتنساب الدماء من يديها في أكثر من لقطة. تذهب إليها رامونا حتى تطردها من ممتلكاتها، ولكن يزداد الأمر غموضًا عندما ترفض المرأة المغادرة، بل تبدو وكأنها تعرف رامونا جيدًا، إذ تتمتم ببضع كلمات غير مفهومة مثل 'حان الوقت يا رامونا' وكأنها جاءت لتنفيذ مهمة معينة.
يلعب مخرج الفيلم على وتيرة الرعب النفسي وليس الرعب المباشر كما تعودنا في أفلام الرعب التقليدية، حيث يبدو أن هناك علاقة ارتباط وثيقة بين حدثين لا يبدو من الوهلة الأولى أن هناك صلة بينهما وهما؛ اقتراب السيدة من باب المنزل من ناحية، وفقدان رامونا لتوازنها النفسي داخل المنزل، ومشاداتها الدائمة مع ابنها، بسبب فشلها في السيطرة عليه من ناحية أخرى. فكلما فقدت رامونا أعصابها وهاجمت ابنها ونهرته بالكلمات، كلما اقتربت السيدة من المنزل. وقد وضع صناع العمل بعض الإشارات لاضطراب رامونا النفسي في بداية الأحداث، إذ تلقي ببعض الحبوب المهدئة على الأرض في صباح ذلك اليوم، وقد قررت أنها لن تتناولها بعد ذلك، وهو ما يتسبب في عدم تحكمها في أعصابها وشجارها الدائم مع ابنها، بسبب رغبته في الخروج من المنزل للبحث عن المساعدة بعد أن انقطعت الكهرباء عن المنزل، ونفاذ شحن بطارية هاتف رامونا، مما يشكل عائقًا في الاتصال بأي شخص من أجل طلب المساعدة.
ويبدو أن عليهم أن يتكاتفوا جميعًا للمرور سالمين من هذه الليلة العصيبة ومن ملاحقة المرأة الغامضة، ولكن يحدث أمرًا مفاجئًا وهو قيام الولد بمحاولة قتل المرأة التي تمثل تهديدًا عليهم، وذلك باستخدام بندقية قديمة كانت ملكًا لوالده، وعند محاولة رامونا منعه، فإنه يقوم باحتجازها داخل غرفة بالمنزل، قبل أن تتمكن من الخروج منها بشق الأنفس بمساعدة ابنتها الصغيرة، وهنا يحدث حوارًا بينها وبين الابن يكشف مفاجأة مروعة؛ أن السيدة في الخارج قد أفصحت للابن عن سر موت الأب ديفيد، وهو أن رامونا مَن تسببت في الحادث، أثناء قيادتها المتهورة للسيارة، بعد مشاجرة وقعت بينها وبين ديفيد، لرغبتها في ترك المنزل والانفصال عنه وعن أولادهما، وهي المفاجأة التي يكشفها العمل، أن رامونا هي من كان يقود السيارة، بعكس ما ذكرته لابنها من قبل أن والده هو من تسبب في الحادث.
تزداد الأمور تعقيدًا عند حلول الليل وقد تحولت المرأة الغامضة إلى ظل شبحي مخيف عملاق يطارد الأسرة، قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى علية المنزل للاختباء منه، ولكنه يلاحقهم إلى هناك، والغريب أنه يقوم باختطاف ابنة رامونا الصغيرة دون عناء يذكر، وكأن الطفلة تعرف هذا الظل جيدًا، بسبب أن هيئته مألوفة بالنسبة لها.
تتكشف المفاجأة الكبرى في النهاية أن هذا الكيان الظلي (المرأة في الفناء) قد جاء بناء على طلب من رامونا نفسها، وذلك حتى يساعدها في التخلص من حياتها تحت وطأة الشعور بالذنب، بعد حادث مقتل الأب، وهنا يعرف الجمهور سر ارتباط المرأة في الفناء بما يحدث في المنزل، حيث يبدو أن هذه المرأة ترمز إلى الجزء الخفي المعقد داخل شخصية رامونا بعد الحادث، وقد أصبح الشعور بالذنب داخل نفس رامونا المضطربة، يتجسد في ذلك الكيان المتوحش الذي ينهش في روحها يومًا بعد يوم، ويتغذى عليها من الداخل قبل الخارج، حتى أصبح يتمثل مرئيًا أمامها وأمام أطفالها في تلك الصورة، ولذلك لا تصرخ الطفلة الصغيرة أو تقاومه عندما يختطفها. ولا نستطيع التيقن بشكل قاطع هل ظهر هذا الكيان للأطفال أيضًا طيلة أحداث الفيلم، أم أن هذه التمثلات لا تعد سوى تخيلات داخل عقل رامونا، الذي أضناه التعب والإرهاق وأصيب بالفصام والانفصال عن الواقع، تحت وطأة الشعور بالذنب بعد موت الزوج.
ينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة وهي تغلب رامونا على هذا الظل الغامض وطرده من المنزل وعدم الانصياع لنصيحته لها بضرورة الانتحار، قبل أن يظهر في المشهد الأخير إحدى لوحات رامونا (بورتريه)، فقد اعتادت رامونا على الرسم منذ الصغر، تقترب الكاميرا من وجه رامونا المرسومة على البورتريه حتى تستقر عند عينيها، وكأن هذه الكاميرا قد دلفت إلى عقل رامونا وكشفت لنا عن مخاوفها وأفكارها الدفينة التي رأيناها طيلة أحداث الفيلم، قبل أن تنتقل الكاميرا إلى الأسفل لنرى توقيعها مكتوب بطريقة غريبة، حيث يبدو أن الحروف مكتوبة بشكل معكوس من اليمين إلى اليسار ANOMA Я وليس RAMONA ، وهو ما يضع المشاهد أمام احتمالين؛ إما أنها قامت بتخطي مخاوفها وسوف تبدأ حياتها الجديدة مع أطفالها، أم أنها لا تزال داخل حلم مموه ومشوه وغير واقعي، يظهر فيه كل شيء معكوس ومقلوب عن الأصل، في إشارة أن هلاوسها لم تنتهي وسوف تأتي المرأة مرة أخرى لتدفعها للانتحار، خاصة أن تلك الحروف المقلوبة قد ظهرت من قبل في بعض رسومات ابنتها الصغيرة، مما قد يعزز احتمالية أن تكون الأحداث برمتها مجرد أوهام في عقل رامونا.
فيلم امرأة في الفناء ينتمي إلى نوعية أفلام الرعب النفسي، فلا يعتمد على فكرة ظهور كيانات مرعبة أو دموية، وإنما تتصاعد وتيرة الأحداث المرعبة نفسها إثر الغموض الذي يكتنف ظهور امرأة في الفناء ومحاولة اكتشاف الجمهور طبيعتها الغامضة، ويتفاجئ الجمهور في النهاية أن الفيلم يقدم معنى رمزي صادم ومرعب أن مخاوف الإنسان وأفكاره الدفينة قد تتحول إلى وحش يلتهم ذاته ومن حوله، وأن القلق والمرض النفسي أكثر رعبًا وغموضًا من أي كيان غامض وحشي أو دموي.. فالجزء المرعب يكمن داخلنا وليس في الآخر. أنه مخاوفنا الدفينة ورغباتنا اللاوعية.