إلياس كانيتّي : يكلِّم الشّمس... فينصتُ الطّفل

ترجمة وتقديم: عماد فؤاد

في كتابه 'القلب السرِّي للسَّاعة' الصادر عام 1987، قدّم إلياس كانيتي (1905 - 1994) نفسه بوجهه الإنساني المجرّد: كائن لُغوي يترك آثار أصابعه مجسّدة في بقع حبر وخطوط مرتعشة على صفحات دفاتره البيضاء.

هذه الآثار، اليوميات أو الخواطر أو التأمّلات، سمّها ما شئت، طالت أم قصرت، اكتملت أم بُترت، ليست إلّا شظايا أفكار، لحظات مستدعاة من ذاكرة لم يصبها النسيان بعد، قادمة إلينا من وعيٍ حاد ومكثّف، لا يقدّم حلولًا شافية أو إجابات مريحة، لا يتبنّى مقاربات بعينها، ولا يرتّب أفكاره وفق منطق خطّي، بل يتداعى أمامنا في سيل غير محسوب، صياغة منه للحيرة، وتدوين لمرحلة متأخرة من العمر (1973 - 1985).

حين صدرت هذه الشذرات، كان ذلك بعد مرور 6 سنوات على حصول إلياس كانيتي على جائزة نوبل للآداب عام 1981، وكان في سن الثانية والثمانين من عمره، كاتب عجوز يترجم انفعالاته المتناثرة في كلمات يخشى ضياعها، جملٍ يكتبها ثم ينساها، لكنه – بالرغم من ذلك - يواصل الكتابة، يقول: 'الجُمل التي لَمْ تَعُدْ لَهُ، تلك هي جُمَلَهُ'! هذا النفي الذي سرعان ما يتمّ تأكيد نقيضه، يتلاعب في الجملة التالية ليصبح: 'لم يكن خاليًا من الخوف، لكن لم يعد خوفه هو'!

كأنّ الكاتب الذي بلغ الحافّة من كلّ شيء، لم يعد مهتمًا بإقناع أحد، ولا حتى إرضاء نفسه، وفوق هذا لم يعد الخوف الكامن داخله 'خوفه هو'، بل 'الخوف' بكلِّيته... وعلى إطلاقه، ربما هنا يكمن جمال هذه التأملات، في ارتباكها لا انتظامها، إلى الدرجة التي يمكننا اعتبارها تأمّلات عن الانسلاخ بمعناه الأكبر، انسلاخ الجسد عن الزمن، والكاتب عن لغته، والعالم عن المعنى، والروح عن الجسد، ومن ثم الموت، العدو اللدود الذي ظلّ كانيتي يحاربه طيلة سنوات عمره البالغة 89 عامًا، في معركة اكتملت وظهرت نتيجتها في أحد أجمل وأرق كتبه على الإطلاق: 'كتاب ضد الموت'، والصادر عام 2014، أي بعد رحيله بـ 20 عامًا كاملة.

كثيرًا ما يصوّر كانيتي نفسه بوصفه المتفرج الأخير على مسرح العالم، الناجي وسط الضحايا، لكنه رغم ذلك ليس متفرجًا صامتًا، بل شاهدًا لا يترك شيئًا إلّا ووثقه، يقول: 'أنا مكوَّن من أمواتي، إنهم مشتّتون في أنحاء الأرض، والأرض وطني'. وفي مقطع آخر: 'لو كان يعرف أنه سيبلغ الثمانين لكان أكثر صبرًا حيال كلّ شيء. وضع الخوف الأخير جانبًا ومات'.

لا تترك شذرات كانيتي نفسها لتجر قارئها إلى غياهب النوستالجيا، بل تستدعي شخصيات وكتّابًا عديدين: كافكا، شتاينر، ستندال، نيتشه، ديستويفسكي، كراوس، فرويد، ليوباردي، وغيرهم، ليحدّثنا عنهم كانيتي من منظور القارئ أولًا وقبل أي شيء، لا يكتب عنهم تحليلات أكاديمية، بل يتواطأ معهم وجدانيًا وفي الوقت ذاته يدينهم، يعترف لهم بأفضالهم، ولا يتواني عن نكء عيوبهم، يقف كانيتي أمام نيتشه العملاق ليتأمّله بحسرة قائلًا: 'كل تلك النبوءات العظيمة مشوّهة، مقطّعة، مضخّمة، صار نيتشه مجرد سلسلة من التسميات، حتى غضبه لم يبق له، شيء فيه يشبه موتًا لم يكتمل'.

في نصوص كانيتي الشذرية، عادة ما يتلاعب بأقنعة الحيوانات ويلبسها انعكاساته الفلسفية، كتب يقول: 'الحيوانات! الحيوانات! من أين أعرفها؟ من كل ما لستُ إياه، وكل ما كنتُ أرغب في أن أكونه، على سبيل التجربة'. وفي إحدى شذراته هذه يقول 'يحتاج إلى أشكال الحيوان، كي لا ينغمس في الأشكال كلِّها. لا يريد معرفة مِنْ أين جاءت هذه الأشكال. تمحوها التحوُّلات'. أو: 'كم كان معجبًا بالحيوانات بحكم تفوّقه'!

كذلك لا يُخفي كانيتي سخطه على ما وصل إليه العالم الحديث، لكنه لا ينخرط في نقد اجتماعي مكرر، بل يقول: 'أكره أولئك الذين يتباكون على نهاية الزمن، لأنهم يفعلون ذلك لتبرير فشلهم الشخصي'. ولأن كانيتي آمن أن الكتابة هي فعل حقيقي ضد الموت، ومن ثم ضد النسيان، يقول: 'التذكر هو أخطر ما في الكائن البشري، هو ما يجعلنا نستحق الحياة'. وفي مكان آخر، كمن يسرد نبوءة مستحيل تحققها: 'إن العالم لا يحتاج إلى فكرة جديدة، بل إلى شعور قديم تجاه الحياة'.

أما في إحدى تأملاته عن العلاقة بين الذاكرة واللغة، فيقول: 'الكلمات تئن حين تُحرَّف، وليس بين البشر من يشعر بذلك الألم'. أو يقول: 'ما زلت أومن بالكلمة التي لم تُلوَّث، كل ما عداها تمرين على التزييف'. من الواضح هنا رغبة كانيتي الممضة في 'تطهير اللغة'، تنقيتها من شوائبها التي علقت بها جراء الابتذال الذي ألم بمفرداتها، أو ربما الهروب بها إلى ما قبل التفسير أو تعدد التأويل.

كأن كانيتي الذي امتلك أكثر من ست لغات: اللادينو، وهي لغة اليهود الإسبان، والبلغارية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، ونهايةً بالألمانية التي اختارها لتكون لسانه الأدبي، لا يكتب تلك الكلمات التي 'زُيِّفَتْ' أو 'حرِّفت'، بل تلك التي لم تُلوَّث بعد، تلك البريئة، يقول في واحدة من أجمل فقرات كتابه هذا: 'من الألفاظ التي حافظت على براءتها، والتي يمكن أن يقولها دون تردّد، 'البراءة' نفسها'.

تزامنًا مع الاحتفالات الأوروبية هذا العام بمرور 120 عامًا على مولد إلياس كانيتي، وأيضًا 31 عامًا على رحيله، نقدم هنا مختارات مترجمة عن الهولندية من كتابه 'القلب السرِّي للساعة'، الصادر عام 1987:

1

هو في الثمانين. كأنّما دخل قرنًا آخر بلا استئذان.

يحتاج إلى أشكال الحيوان، كي لا ينغمس في الأشكال كلِّها.

لا يريد معرفة مِنْ أين جاءت هذه الأشكال. تمحوها التحوُّلات.

يحتاج إلى القفزات.

علَّق ذراعه المؤلمة على شجرة البلاتانوس وشُفي.

آآخ، لطالما امتلك فمًا كبيرًا

والآن عليه فقط أن يتكلَّم.

2

يبدأ في الصباح عند صياح الدِّيكة بِجُمَلٍ فضفاضة قد لا تجتمع على شيء.

يقع عليه الإيمان أشدّ ما يكون وسط كثير من المؤمنين.

الكتب التي راجعها صحافيًا لم يقرأها إلّا في وقت لاحق.

هكذا، كان يعرف مسبقًا رأيه فيها.

عضَّ على شهرة أستاذه. فذاق طعم المرارة في فمه.

كم كان معجبًا بالحيوانات بحكم تفوّقه!

بينما يجوع الآخرون، كان يكتب.

يكتب بينما يموت الآخرون.

3

ألقى بنفسه بعيدًا فوقع في القرن التّالي.

لم يعمل عملًا صالحًا قطّ إلّا ونفعه قبل ذلك.

تصرخ حياته لتصبح شِعرًا، هذا صحيح.

الجُمل التي لَمْ تَعُدْ لَهُ، تلك هي جُمَلَهُ.

لم يكن خاليًا من الخوف، لكن لم يعد خوفه هو.

في هذه الحالة من العالم كان كلّ ما يُضفي على نفسه مظهرًا للتفوّق يملأه بالاشمئزاز.

لا يزداد حكمة من ثرثرته. هي فقط ثرثرته الخاصّة، كأنّها لغة غير مألوفة.

4

يحافظ على أوتار اللغة ويُصفِّي دمها.

لم يعد يريد خلق عالم آخر، حتى لو كان عالمًا مثيرًا أو مبهجًا، لم يعد هناك سوى هذا العالم.

أمَّا الآن وقد أعلن أحدهم مجددًا عن وجوده، قال إنه يعرفه جيدًا ويتعهّد بعدم السكوت عنه أبدًا.

مِنْ مَنْ لم يكن خائفًا؟ ولكن هل يعلم مَن الذي كان خائفًا منه؟

5

يضيع في كتب التّاريخ. لا يعبأ بالوقت ولا بحقيقة بعيدة المنال. عمَّا يدور الأمر إذًا؟ عن أسماء أخرى.

ظلّ وحيدًا لزمن طويل حتى وصل هناك.

السّخرية التي كان يعامل بها الآخرين، والتي لم يعد يرضاها لنفسه، تؤثّر فيه الآن تأثيرًا كبيرًا.

اكتشف حسّاده وسط الجميع.

6

بفضل الإنجازات العلمية باهظة الثمن. أرعدت السماء.

لم يعد يستطيع رؤية منظر طبيعي إلّا ويزحف إليه.

لا يخجل من أن ينسب إليه أفكاره الحادة.

يتحدّث بلا هوادة، حتى ينهار كلّ شيء.

7

لا يزال الرماد هناك. لم يُنثر بعد. لا يزال يشعر بخفّته. لا يزال يُنْسَبُ إليه الوعي.

الموت بوصفه إهانة. لكن كيف يجب للبشر شرح ذلك؟

8

يبدو متحفظًا جدًا: عينان كالماء المقطّر.

حاملًا الموت الذي لا يتسامح معه.

طالب بتوبة كلّ من ارتكب خطيئة. 'فكّر مرة أخرى! يمكنك العودة'.

يا لها من لحظة حين يفتح أحدهم عينيه مجددًا!

9

يقرأ عن نفسه فيلاحظ أنه كان شخصًا آخر.

كتبه المقدّسة العظيمة التي يجهلها. مقدّسة جدًا لدرجة أنّه لا يجرؤ على فتحها.

لا يُصدّق إلّا مَنْ لا يفهم لغته.

يُفضِّل أن يجعل من ضيِّقي الأفق أصدقاءً له، لضخامتهم.

10

لم يندم على محنة، ولم يعيقه عائق.

لو كان يعرف أنه سيبلغ الثمانين لكان أكثر صبرًا حيال كلّ شيء.

وضع الخوف الأخير جانبًا ومات.

اتَّضح أن الأرواح التي كان يقدِّرها أكثر من غيرها كانت ستضجره ضجرًا مميتًا لو أنَّه التقاها بشحمها ولحمها.

وقد انقرضت الشعوب التي قرأ عنها في صباه الآن.

بحث عن شيء يمكنه عبادته بدون عقاب.

لم يجد سوى جُمَلٍ، ليستعيد بها جُمَلًا سابقة.

حتى الآن يستنفد روحه في اللمسات. حتى الآن ينأى بنفسه عن الاندماج.

وحين أصبح فارغًا تمامًا، حين لم يبق له شيء، تشبَّث في جرأة بقبضة الأَصْلِ.

11

حين لم يكن لديه ما يقوله، كان يترك الكلمات تتكلَّم.

لم يتعرَّف عليه أو يثق به أي حيوان. ورفض أن يتّخذ من الحيوان خدمًا له.

كان يعتقد أنّ كلّ ما يعرفه ينتمي إليه.

الانتماء الذي يستمرَّ حتى يُخطئ.

12

لا يفكّر في شيء. إنّه سعيد. ينظر إلى قلمي الرَّصاص ويبتسم.

وجد نفسه مُتحجِّرًا بقوّة داخل تلميذه لدرجة أنّه أحبّ أن يفكّك نفسه مجدّدًا.

يطاردني. ولكن يزعجه أن أتعقَّب تعقُّبَه لي.

من الأفضل أن يبقى شيء مجهول منه، ولو كتعويض، لأنّ كراهية المعروف منه لم تعد تُحتمل.

لو كان يعرف مَنْ مِنَ الناس سيكون آخر من يراه، لاختلفت حياته.

منذ أن اقترب الخطر هكذا، كرِه الرِّثاء

كلّ ما قضمه منِّي، أرسله إليّ ملفوفًا في أعشاب جبال الألب.

13

يقول الشّيء ذاته، لكن أنفاسه تتصاعد منها أبخرة مختلفة.

في بدايات حياته الأولى، قدّم نفسه لجلسة الاستماع اللاحقة

وترك الكلمات تستريح عامًا

يكلّم الشمس فينصت الطّفل. الآن يتكلّم الطّفل ويسمع هو الشّمس.

بإرادة من أنفاسه بدأ يحكي مرّة أخرى.

ودّع الآلهة، وكان هذا هو الأصعب.

إنه مليء بالمعرفة. لا يعرف شيئًا.

لا يزال يريد أن يعرف.

14

أكثر ما كان يقلقه أنّه قد لا يهتم على الإطلاق بما يعتقده شخص ما.

عاد إلى البيت. كان كلّ شيء هناك. اختفت الطّاولة. جلس وكتب في الهواء.

خاف من الصّراعات التي خلقها في نفسه عندما تحدّث إلى الآخرين. أصداء كلماته.

بعد فترة من الزمن بدأ في الإغفاء بشكل دائم: ينظر الجميع إلى الرجل المتواضع الودود ويسألون:

مَن هذا؟

15

نسي نفسه لدرجة أنّ الناس كان عليهم أن يأخذوا بيده ليعيدوه إلى بيته.

قال: ليس هذا هو المكان الذي أعيش فيه، وبما أنّه لم يتعرّف على أحد، لم يتعرّف أحد عليه.

كان عليه أن ينام قبل أن يعود إلى نفسه.

جيّد، هو لا يعرف شيئًا. لكنّه يدرك ذلك بشكل أفضل الآن.

هو لا يبتلع الأسماء

بل يقضمها.