اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٤ نيسان ٢٠٢٥
صالح الرزوق*
وجدت عمتي فرخ غراب وراء غطاء النافذة، فحملته إلى البيت وكرست له قسطا من وقتها. كانت تنظفه بليفة رطبة وتطعمه قشور الخس وأعواد البقدونس، لكن نصحها عدولي بالبيض، وأخبرنا أن الغربان عدو بقية الطيور، لأنها تأكل بيوضها قبل أن تفقس. كان عدولي ينام في كوخ على الرصيف، ويعتني بحديقة البناية، ويأتي باللوازم لمن يرغب لقاء أجرة زهيدة. وكانت له حكاية مأساوية لا تقل عن بقية جروح حياتنا.
من ناحيتي فقدت والدي ووالدتي في حادث سير. كنت حينها في عمر خمس سنوات تقريبا، واعتنت عمتي بي. خصصت لي وقتها مثلما تفعل الآن مع فرخ الغراب. وكبرت في ظل رعايتها، ولكنها دفعت مقابل ذلك ثمنا مرتفعا، وهو العنوسة. ولم تتزوج لأن الشباب كانوا يأنفون من الارتباط بصبية لديها ابن من أخيها.
غير أنها لم تساوم على الموضوع، وكانت تشترط أن أعيش معها. وسرعان ما كان أي خطيب يختفي بعد أن يسمع هذا الشرط. أما عدولي فقد كان بلا أبوين، ووجده مؤذن الجامع أمام الباب، وهو يفتحه لصلاة الفجر، وأودعه في دار أيتام، وهناك ضاق ذرعا بظروف الحياة القاسية.
فقر وبرد.
هذا كل ما بقي في ذهنه.
سألته عن مكان هذا الجحر.
ابتسم بحياء وقال: لا أعلم.
لكن بعد أن يئس منه، انتظر هبوط الظلام، وتسلل من النافذة، وبدأ يجري حتى انقطعت أنفاسه، وحين رأى شاحنة متوقفة على الطريق للاستراحة، تعلق بها، وهي التي أتت به إلى حلب. ولا يتذكر من الطريق أي شيء سوى نجمة بقيت في ذهنه. توقعت أنها نجمة الشمال. وماذا يكون غيرها؟ فهي وحدها التي تدور مع الأرض، وتظهر حالما تغيب الشمس، ولا تختفي إلا بعد الفجر بساعات، ولكنها ليست علامة.
لم أصدق حكاية عدولي تماما، واعتقدت أنه يخفي سرا، ومع ذلك ما دام القانون لا يحاسبه، فما شأني أنا. وتعاملت معه كأحد سكان البناية، وأحيانا كنت أسهر معه على الرصيف. وكان هو يجلس ونصفه داخل كوخه ونصفه الآخر في الشارع. واكتشفت أنه إنسان رومانسي. عموما كان له رأس حليق، ويحلقه بالشفرة أو حد الموس، ولا يغطيه غير وبر أزرق كان يشبه وبر فرخ الغراب قبل أن ينمو ويتحول إلى ريش وجناحين. وسرعان ما بدأ غراب العمة بالطيران في أرجاء البيت. ويبدو أنه ألف هذا الجو، حتى إذا تركنا النوافذ مفتوحة لم يكن ينصرف. أحيانا يغادر منها لمتر أو اثنين ثم يعود. وكان يودني كثيرا، ويحط أحيانا على كتفي ويفتح منقاره وينعق بصوته الأجش. وذكرني ذلك ببغاء جون سيلفر البطل الشرير في رواية «جزيرة الكنز» لروبرت لويس ستيفنسون.
بالمناسبة قرأتها وأنا على مقاعد الدراسة، وكانت بطبعة مصورة، ولكن فقدتها مع جملة أشياء إضافية. فقدت أمورا كثيرة. منها عادة الصبر، فقد دللتني عمتي كثيرا، ومن جراء ذلك ارتفعت روح الأنانية في نفسي.
وما وجه الغرابة في ذلك؟
كنت أنا حياتها الأخرى، هي تكرس لي وقتها، وأنا أستغل هذا الفراغ الذي يلتهمها من الداخل، فقد كنت أنا فراغ حياتها ومعناه. ولا يمكن أن أفسر معنى ما أقول. فالمشكلة معقدة لأنها ليست مقصودة. يمكن أن تقول: كنت أنا الحنان الذي ليس له اسم محدد، وغير المرئي، والذي تتعايش معه، ثم جاء هذا الغراب ليجعل حنانها مرئيا. أحيانا تضعه في حضنها وتدغدغ له رأسه كما يفعل الأسوياء مع قطة منزلية أو كلب أليف، فيغمض عينيه، ويستسلم لها. وبعد أن اقترح علينا عدولي تغذيته بالبيض بدأ يكبر بالحجم بسرعة. أصبح بحجم حمامة. ثم بحجم صقر. وأصبحت له نظرات صفراء قلقة. ثم صار له حجم نسر، وبدأت أخاف منه، لكنه كان ينظر لي ويرفرف بجناحيه، وينعق بصوته الأجش. الأجش والحنون. وغالبا يحلق فوق رأسي وهو يصفق بجناحيه. وفي بعض المرات يقف على رأسي وينعق مرة أو اثنتين.
اتفقت مع عدولي أن نسميه يوليوس قيصر. ولم تستسغ عمتي هذا الاسم، واختارت له اسم عنتر بن شداد. أغرقت بالضحك من خيالها الضيق. حتى لو أن الغراب أسود مثل عنتر فهو مختلف عنه. كان عنتر عاشقا، وهذا الغراب لا يدق قلبه لأي حمامة أو عصفور. زد على ذلك لم يحاول أن يبحث عن غرابة – أنثى، كأنه راهب متبتل.
وفجأة اختفى عدولي من كوخه ليومين، وخفت أنه تورط بمشكلة. مثلا مع رجل أمن. فهم يشكّون حتى بالخيال الذي يدب على الأرض. وأخيرا أخبرت العمة.
قلت لها: لاحظت أن عدولي غائب منذ أمس…
قاطعتني بقولها: أعرف.
كان صوتها فاترا مثل خفق جناح الغراب في فصل الصيف، فهو يضرب به الهواء بتكاسل، ويترك للجو الراكد مهمة أن يحمله.
قلت لها: ولكن أين يمكنه أن يذهب؟
قالت: لديه عمل في التجنيد.
يعني إدارة الخدمة الإلزامية. ولا أعرف كيف سهوت عن الموضوع. فقد بلغ الثامنة عشرة منذ أسابيع، وهو سن التكليف القانوني بخدمة العلم، ولا بد أنه يغوص الآن هناك في وحل الروتين، ولاسيما أنه بحاجة لتوضيح أشياء كثيرة لنفسه قبل أن يوضحها لهم.
من هو أبوه؟
مكان ولادته؟
وأسباب تخليه عن الملجأ.
وأين موقعه؟
هذا غير النجمة الزرقاء المختونة على صلعته، أو الأصح المنقوشة عليها مثل وشم، وكنت أشبهها بالطراز القوقازي. النجوم مثل الصلبان. لكل شعب أو عرق نجمة، ولكل طائفة صليب. ونجومنا نحن لها خمسة رؤوس رفيعة، أما نجمته فلها رأسان رفيعان وثلاثة أطراف مضلعة. وكانت معه صورة بالأبيض والأسود، وحتى لو أنها مكسورة في عدة مواضع فهي واضحة. وكان يقف فيها وسط حقل من النجيليات، وعلى قفا الصورة اسم واحد. وهو عمر. وتراها الآن مثبتة على جدار كوخه من الداخل. وعندما رأيتها أول مرة سألته: هل هي صورتك؟
قال: بالتأكيد.
قلت له: ولماذا عليها اسم عمر.
قال وهو يهز كتفيه بلا مبالاة: ربما هذا هو اسمي.
قلت له: وعدولي؟
قال: لا. هذا اسم شهرة.
ثم أخبرني أن امرأة كانت تسكن في الطابق الأخير من هذا المبنى اختارته له، ثم توفيت بانفجار أنبوبة غاز. تذكرت الحادث المروع، لكن لم أجد في ذهني معلومات عن سكان البيت المنكوب، فقد كنت صغيرا للغاية.
ترى كيف سيحل هذه الإشكالات مع موظف التجنيد المتشدد والشكاك بطبعه. وانتظرت أن يعود لأفهم منه كيف سارت أموره.
مرّ أسبوع. اثنان. ولم يظهر له أثر.
واليوم في طريق عودتي لاحظت أن كوخه مغلق، والقفل الحديدي يتدلى من الباب كأنه ثمرة جوز هند تتدلى من شجرة فارعة الطول. عموما كان سقف كوخه من القصدير، وغطاه بأغصان السرو وجريد النخيل الهندي ليحميه من تقلبات الطقس. عزمت أن أسأل عمتي عن أفضل سبيل لنتحرى عنه، فقد طالت غيبته، وبدأت أشك بمصيره. ولكن حالما دخلت إلى البيت رأيتها وهي تحضن رأسها ببن يديها، وهذه هي عادتها إذا اتصلت بها عمتي الثانية المتزوجة. دائما تختلفان على توافه الأمور، وتنتهي كل مخابرة بملاسنات وعتاب مؤلم.
سألتها: خير هل اتصلت بك عمتي؟
رفعت رأسها ونظرت لي بوجه شاحب ومثلج وقالت: لا.. لم يتصل أحد.
ثم أضافت: ولكن عنتر هرب.
وأشارت بيدها إلى نافذة مفتوحة.
*كاتب سوري