اخبار اليمن
موقع كل يوم -شبكة الأمة برس
نشر بتاريخ: ٢٥ حزيران ٢٠٢٥
عبدالحفيظ بن جلولي*
تعتبر السيرة الذاتية عملا أدبيا من حيث تحقيقه متعة لاكتشاف المفاصل الرابطة بين العامل الذاتي والنفسي والعقلي والوجداني التي تنسج شخصية ما والعوامل التي ساهمت في بنائها، بل حتى تلك التي ساهمت بها الشخصية في بناء بيئتها، وكتاب السيرة لمحمد بن عبد الله السيف، حول المثقف والأديب والسياسي «حمزة غوث /سياسي دولتين وإمارة» يلقي الضوء على هذا الدور السيَري، حيث جاء الكتاب عارضا لبعض التفاصيل التي تتعلق بتاريخ المدينة وتَشَكل الدولة السعودية والعلاقات العربية في الجزيرة العربية والخليج والشام التي قامت في إطارها المنظومات العربية السياسية.
شخصية حمزة غوث وشبكة تفاعلها:
تعتبر سيرة السياسي السعودي حمزة غوث (1882-1970) المولود في المدينة المنورة لإحدى الأسر العريقة كما عرضها الكاتب، عبارة عن جولة في التاريخ والسياسة والمكان والمغامرة وحركة تجمع الناس الصائرة إلى شكل مجتمع، وهذا ما يجعل الإقبال على قراءتها فيه شيء من المطالعة الثقافية بأسلوب صحافي ممتع يدور بين الإخبار (المعلومة) والتحليل أحيانا.
انت، وكان من أبرز أسباب عفوه عنه.
كانت عائلة حمزة غوث تمارس مهمة «الأدِلاء»، أي تزوير (من الزيارة) حجاج بيت الله الحرام، وتكون عبر تقرير أو إنعام من مشيخة الحرم النبوي، ولكنه عدل عن هذه المهمة للانخراط في السياسة، وكان مشروع أديب، «وتمنى عليه ثلاثة من كبار أدباء المدينة مواصلة الاهتمام بالأدب وفنونه، ليواصل الرسالة الأدبية للمدينة»، ومنحوه «وثيقة احتفظ بها سنوات عمره» ومما وصفوه به فيها «ذكاء الحاسة وسرعة الإلهام»، وهو ما سيستغله في مشواره السياسي. ينطوي التحول والتغيير في حياة الشخص على بوادر بحث عن الذات في المستوى الذي تجد فيه ذاتها، ولهذا فإرادة التحول من «الدلالة» إلى السياسة في حياة حمزة غوث تقدم ملمحا عن شخصيته المُفاوِضة، من أجل افتكاك مكانة رائدة في المجتمع، وهو ما سيظهر مستقبلا في ثورته ضد ظلم العثمانيين في المدينة، وخدمته في إمارة حائل وقدومه على الأمير عبد العزيز بن سعود، بعد أن دانت له حائل، آملا فيه العفو، بل والاصطفاء لأداء مهمات سياسية وهو ما كان فعلا.
بعد وفاة والده إبراهيم، اهتم بأصحابه، والذين من شدة وفائه لهم طلب منهم أن يستمروا في المجلس، الذي كان يضمهم بين المغرب والعشاء، وكان يقوم بخدمتهم ورفقتهم وهو أصغر منهم، وبلغ به النبل والوفاء لذكرى والده، أنه أسقط عنهم الدين الذي كان عليهم لوالده، وظل رفيقهم إلى أن دفنهم الواحد تلو الآخر.
اهتم إبراهيم بتعليم ولده حمزة، فكانت اللغة التركية من أولويات التعليم، لأنها وسيلة التواصل مع العثمانيين، ولقد أفادته في مفاوضاته مع الملك فؤاد لصالح أمير حائل، ولكن والده لم يرسله إلى كلية دار الشفقة بإسطنبول، يبدو لي ذلك لأسباب سياسية، ربما الأب كان يرى في الأتراك محتلين، أو إنه كان يريد لولده أن ينشأ في بيئة تربوية حجازية خالصة تفيده في استقلاليته وخصوصيته ومعرفة العلاقات الوطنية ضمن إطارها الطبيعي. عُين وزيرا مفوضا للمملكة العربية السعودية في إيران عام 1948، وطلب من الملك عبد العزيز بعد التكليف أن يرتبط المنصب به مباشرة، فوافقه على ذلك، وكما يروي حمزة لابنه خالد، أنه بدا للملك متحفظا، لأنه كان يريد أن يعمل قريبا منه، والملك يعلم حب حمزة للمدينة، قَبل المهمة وخاض تجربة السفارة. كانت المهمة بعد انقطاع العلاقات بين الرياض وطهران، ولا شك أن شخصية حمزة التفاوضية هي التي أهلته لاختياره سفيرا في طهران بالذات.
حمزة غوث وانبثاقات المدينة المنورة:
كانت المدينة المنورة في مستهل القرن العشرين بارزة من خلال شكل بيوتاتها ذات «الرواشين.. ضمن نظام الأحواش، التي كانت تشكل المجمعات السكنية الشهيرة»، و»الروشان يمثل نافذة البيت التقليدية على الحوش أو الحارة، حيث يمكن من خلاله النظر دون جرح لخصوصية الدار، أو الجوار وهذا الأمر من التقاليد الإسلامية العريقة»، وهو ما يعني الهوية العمرانية ذات الخصوصية للمدينة، التي كانت تتطور شيئا فشيئا. نشأ حمزة «في حي الساحة غربا من المسجد النبوي.. يحوي أكبر الشوارع وأجمل المباني الحجرية، ذات الأدوار المتعددة.. وكان لهذا الحي عدد من الحدائق والمكتبات، إضافة إلى المحكمة الشرعية في العهد العثماني»، هذا الهيكل العمراني والاجتماعي لحي من أحياء المدينة يُظهر حجم التفاعل في شخصية حمزة، بين الجمالي والعقلي والاجتماعي، إذ تأثير المكان يساهم في استقرار الشخصية ودفعها إلى لعب أدوار في مستوى استجابة المكان لانبثاقاته كافة، سواء على مستوى العمران أو حركة الناس.
في عام 1914 شهدت المدينة المنورة تشييد «دار الفنون الجميلة»، وكان ممن انتدبتهم الحكومة العثمانية ثلاث شخصيات منهم، شكيب أرسلان، الذي بقي بعد أن تم تعيين مكان المدرسة وعاد أحد صاحبيه إلى الاستانة، والآخر إلى طرابلس الشام، يقول: «طاب لي المناخ في المدينة، وكان الفصل شتاء، فرأيت الشتاء هناك عبارة عن ربيع لطيف». توقف بناء الدار عند الدور الأول بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتحول عدة مرات إلى أن استقر «مبنى ثانوية طيبة وهي أول ثانوية في تاريخ المدينة». وكان العثمانيون يسمون الجامعات «دار الفنون عثماني» و»دار الفنون سلطاني»، والفنون تعبير لدى العثمانيين عن «العلم المُحدث».
«ساهم حمزة غوث في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية في المدينة، وأصبح مديرا لهذا الفرع بدعم وترشيح من شكيب أرسلان»، وكان الهدف من هذه الجمعية كما يذكر شكيب أرسلان هو التوفيق والوحدة بين الاتحاد والترقي، الذي كان حمزة عضوا فيه والأحزاب الأخرى داخل كيان الدولة العثمانية لتعزيز الوحدة الوطنية. لا شك أن رغبة حمزة في إدارة فرع الجمعية يكشف عن صورة الفاعل الاجتماعي، ويقدم أيضا صورة عن نشاط المجتمع المدني في المدينة.
لقد قدم فرع جمعية الاتحاد والترقي في المدينة عام 1910 أول مسرحية في الجزيرة العربية، قبل الكويت والبحرين، يؤكد ذلك سيد إسماعيل، ويعتقد أنها مسرحية «فتاة الدستور»، «لأنها أشهر مسرحية تتعلق بالدستور العثماني، وكاتبها هو نجيب كنعان». يُعتبر الشيخ عبد القادر الطرابلسي أحد الوجوه الفقهية في المدينة، التي تتلمذ على يديها العديد من أبنائها، ومنهم القاضي والأديب والفقيه الحنفي إبراهيم بن عبد القادر بري، «أحد الوجوه المشرقة في المدينة، وأحد أبرز علماء الحجاز، فهو مفتي المذهب الحنفي في عهد الدولة العثمانية، وهو القاضي بالمحكمة الشرعية في العهد الهاشمي ثم العهد السعودي»، وفي إحدى الظهريات، يروي الأديب محمد حسين زيدان أنه وثلة من الأصدقاء كانوا في بستان العمرانية، يستمعون إلى أغنية محمد عبد الوهاب «علموه كيف يجفو فجفا»، وإذا بالحارس يخبرهم بحضور الفقيه إبراهيم بري، فاستحيوا وأسكتوا الأغنية، ولما وقف عليهم أمرهم بالاستمرار في ما كانوا عليه قبل مجيئه قائلا: «لقد سمعت شيئا أعجبني!»، فأعادوا الأغنية، فقال: «إنه أحمد شوقي.. إنه محمد عبد الوهاب». لا بد وأنا أقرأ أن تطرأ في ذهني مقارنات بين مراحل عبور المدينة نحو أشكالها المختلفة، عبر أشكال السلطة التي تداولتها، فالفقيه الحنفي الذي لا يرفض الغناء، يعبر بالضرورة عن التكوين الأدبي لنخبة المجتمع المديني، الذي من نتائجه التسامح وقبول الآخر وامتلاك الذوق الفني والإحساس بالجمال.
إن تاريخ المدينة وفق ما قدمه الكاتب تبين الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي كان يشكل الأساس النهضوي، الذي سوف يُظهر هوية المدينة المنورة المتلاحقة في تطورها التاريخي منذ عصر النبوة وإلى لحظتنا الراهنة.
الكتاب مستفيض بالمعلومات وثري بالوثائق، ويحتاج إلى إضاءات متعددة لأنه يحصر فترة مهمة من تاريخ الحجاز ونجد والمرحلة العثمانية ومرحلة التوحيد والعلاقات العربية في المنطقة والعالم.
*كاتب جزائري