اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٢٥ كانون الأول ٢٠٢٥
أ.د. حمزة بن سليمان الطيار
الحياة لها منعطفات حادّة، وعلى الإنسان أن يوسّع صدرَه لذلك؛ حتى لا يُصابَ بصدمات نفسيّة جرّاء ما يواجه من ذلك، ومما يعين على توسعة الصدر التفتيش عن المنَح في أثناء كل عثرة، وإذا وجدها اعتدّ بها واستثمرها، ولا يلزم أن تكون من جنس تحقُّق الغرض القديم، بل قد تكون توجيهًا إلى هدف جديد ينالُ فيه الغبطة والسعادة والفوائد..
كُتب على الإنسان في هذه الدنيا أن يكدَّ ويواجه تحديات الحياة ساعياً فيما يُصلح به معادَه ومعاشَه، ولم تُجعل أهدافه وغاياته السامية مستحيلةً بحيث لا يمكنه تحقيقها، ولا هيّنةً في متناول اليد، بحيث يتعاطاها بلا أدنى كُلفة، فهو مكتوبٌ عليه أن يُكابدَ المشقّة كما قال تعالى: 'لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ في كَبَد'؛ ولكي يظهر له مدى إثمار جهوده يحتاجُ إلى الأخذ بمعايير الإنجاز الثابتة شرعاً وعقلاً وعرفاً، بعيداً عما تمليه العواطف، فمن استرشد بما أمكنه من تلك المعايير كان متفائلاً بعيدَ النظر، فلا يحكم على نفسه بأنّه محرومٌ بمجرّد عقبة اعترضتْه، أو فوات مرغوب سعى في تحصيله، ولم يقدّرْ له ذلك، ومن ترك الاسترشادَ بها كان متشائماً مشدودَ النظر إلى تفاصيلَ معيّنة ومواصفات محدّدة، يربطُ بها نجاحَه، فيضع في ذهنه أُمنيّات يصبو إلى تحقيقها، ويتصور تحصيلَها على وجه معيّن يرسمه في خياله، أو يخطط له تخطيطاً عمليّاً في بعض الأحوال، ويعدُّ انتجاز ما تصوَّره أو خطَّط له هو التوفيق وحده، وبه يكون محظوظاً، ويرى أن ليس وراء ذلك إلّا الحرمان وخيبة الأمل، ويخفى عليه أن ما يسميه حرماناً قد تكمن فيها ألطافٌ عظيمةٌ، وعافيةٌ كبيرةٌ، فمن الرحمة ما يُظنُّ حرماناً، ولي مع ذلك وقفات:
الأولى: تعطيل المعايير الصائبة المحددة للظفر والحرمان ينطوي على إشكاليات كثيرة، أعظمها أن الإنسانَ إذا اعتاد عليه انزلق إلى إساءة الظّنّ بربّه، فإذا دعاه لحاجة تُهمّه، ولم تحصل له كما أمّله قال في قرارة نفسه أو بلسان مقاله: إن الله تعالى قد حرمه من هذه الحاجة، ومن كانت هذه حاله فهو الذي يجلب الحرمانَ لنفسه؛ بسوء ظنّه واستعجاله وعجزه عن الاستمرار في بذل السبب المشروع، وهو الإلحاح في الدعاء، فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَن النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ للْعَبْد، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْم أَوْ قَطيعَة رَحم، مَا لَمْ يَسْتَعْجلْ» قيلَ: يَا رَسُولَ الله مَا الاسْتعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ: «قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجيبُ لي، فَيَسْتَحْسرُ عنْدَ ذَلكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ»، أخرجه مسلم، وكذلك يستطيلُ الطرق المعهودة للإنجاز، فيحاول اختصارَها بأساليبَ غير واقعيّة وغير مسموح بها شرعاً ونظاماً وعُرفاً، ومن تورّط في هذا فقد جلب الحرمان لنفسه؛ إذ من القواعد المتقررة أنَّ مَن تعجَّل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه، فيكون قد تحوَّل من السير المعتاد في طريق الإنجاز إلى التورُّط في مخالفات لا يمكن الظفر الحقيقي معها، وما يتخيل مرتكبها أنه ظفرٌ ما هو إلا مكسبٌ زائفٌ لا يهنأ به من حصَّله، ولو صبر وثابرَ متوكّلاً على الله تعالى وباذلاً للأسباب المشروعة لم يعدمْ ظفراً هنيئاً، أو تجاربَ مفيدةً، وهو في جميع أحواله سالمٌ من التبعات والملامة، وصدق من قال:
قَدْ يُدركُ المُتَأَنّي بَعْضَ حَاجَته
وقَدْ يكونُ معَ المُستعجل الزُلَلُ
الثانية: يظنُّ بعض الناس أن له قيمةً فريدةً بحيث إذا ابتعدَ عن شريكه أو صديقه ضاقت به الأرضُ بما رحبت، وأحاط به الحرمان من كلّ جانب، وأنَّ مجرَّد ابتعاده يسلبُ غيرَه النّعمَ، والواقعُ أنَّ نعمَ الله تعالى أكبرُ من أن ترحلَ برحيل فلان، وقد صدق من ردَّ على مثل هذا التبجُّح بقوله:
وقالُوا لَنْ تُقيمُوا إنْ ظَعَنَّا
فَكانَ لَنَا -وقَدْ ظَعَنُوا- مُقَامُ
وانفكاك الشراكات والصداقات مع مثل هذا الشخص لا ينبغي أن يُعدَّ حرماناً، بل إنّه رحمةٌ، فمن الظفر أن ينأى عنك من لا يقدّر الأمورَ قدرَها، فكم من حزازات ومصاعبَ نتجت عن استدامة معاملة مغشوشة أو صلة متكلّفة، وكان الطرف البريء فيها يجتهد في ترميمها طيلةَ الوقت، ويتغاضى عن الإشارات السلبيّة ظنّاً منه أن مفارقةَ مثل هذا الخليط حرمانٌ، ولم يدركْ أنها رحمةٌ حتى فاتَ الأوانُ، وأنَّ صاحب التعامل الملتوي لا يستحقُّ أن يُحزنَ على مفارقته، كما أنّه لم يُدركْ أنَّه طرفٌ مهمٌّ، وأنَّ الطرف الآخر قد يكونُ هو الخاسرَ بابتعاده، كما قيل: (ومن فاتنا يكفيه أنّا نفوته).
الثالثة: الحياة لها منعطفاتٌ حادَّةٌ، وعلى الإنسان أن يوسّع صدرَه لذلك؛ حتى لا يُصابَ بصدمات نفسيّة جرَّاء ما يواجهُ من ذلك، ومما يعين على توسعة الصّدر التفتيشُ عن المنَح في أثناء كلّ عثرة، وإذا وجدها اعتدَّ بها واستثمرها، ولا يلزم أن تكونَ من جنس تحقُّق الغرض القديم، بل قد تكون توجيهاً إلى هدف جديد، ينالُ فيه من الغبطة والسعادة والفوائد ما يُنسيه تعثُّرَه السابق، ولا تخلو من تجاربَ تُظهرُ له طبيعة تحديات الحياة، وتُطلعه على طبائع الناس وسلوكياتهم التي يُخفونها، ولا يسهل التعرّف عليها إلا بالتعامل والمعاشرة، وفائدة معرفتها أخذ الحذر من السلبيّينَ، والثقة بالإيجابيّين.










































