الأمن العربي في مرمى الاستراتيجيات الغربية والصهيونية: قراءة من بغداد إلى غزة

د. عبدالله حسين العزام

في عام 2003، غزت الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها العراق وأطاحت بنظام الرئيس العراقي صدام حسين في قلب العاصمة بغداد تحت ذريعة مزاعم كاذبة وتقارير استخباراتية حول امتلاك النظام العراقي أسلحة بيولوجية وكيميائية ونووية صالحة للاستخدام العسكري ويهدد الأمن العالمي، وهو لم يكن لديه أية برنامج مما ذكر، وفي تلك الفترة، اكتفت بعض الأنظمة العربية بالصمت، فيما اكتفت أخرى بإصدار بيانات شكلية استنكارية، وحاولت بعض النظم السياسية التأثير دبلوماسياً لإيقاف قرار الاحتلال الأمريكي للعراق، لكنها لم تنجح، تلك المرحلة وذاك الصمت كشف هشاشة الوحدة العربية وغياب القدرة على الردع أمام أي تدخل خارجي، رغم امتلاك بعض الدول قدرات سياسية وعسكرية تؤهلها لتقديم موقف أكثر فاعلية، ولا تزال العملية العسكرية التي رُفعت تحت شعار 'حرية العراق' تفرض ضريبتها حتى اليوم، ولا سيما أنها أخلّت بمنظومة الدفاع القومي العربي ككل.

علاوة على ذلك، ومع تصاعد طموحات بعض القيادات الإسرائيلية نحو ما يُعرف بـ إسرائيل الكبرى، أصبح الأمن العربي مهدداً على نحو مباشر، مع الإشارة إلى أن الغطاء الأمني الأمريكي أو الاتفاقيات الدفاعية، كما حدث في الضربة الإسرائيلية على قطر عام 2025، لم يكن كافياً لردع هذه التحركات، ما يوضح أن التحالفات الدولية قد لا تكفي إذا غابت اليقظة والاستراتيجية العربية الموحدة.

بالإضافة إلى ذلك، أثبتت التجارب الإقليمية الحديثة إلى أن فاعلية الردع الداخلي والإرادة الوطنية تشكل حاجزاً مهماً ومنيعاً أمام التدخلات الخارجية؛ فعلى سبيل المثال، حاولت الولايات المتحدة وبعض القوى الغربية إشعال ثورة داخلية في إيران وتغيير النظام السياسي خلال العام الجاري، إلا أن ذلك فشل بسبب الردع العسكري الإيراني على الأرض، بالإضافة إلى شعور الرأي العام بالمخاطر الخارجية، رغم التحديات الداخلية التي يواجهها الشعب الإيراني.

مع التأكيد هنا على أن الفكر والتوجه الغربي الصهيوني واحد لا يتغير ولا يتبدل، ودلالات ذلك واضحة في سياسات التدخل المستمرة ومحاولات التمدد الإقليمي، سواء عبر دعم فصائل معينة أو استخدام ذرائع سياسية وعسكرية لتغيير الشكل السياسي للشرق الأوسط ككل.

كما أن الأحداث المأساوية في غزة والوضع العام في الضفة الغربية قد ينعكس سلباً على الأمن القومي العربي والأمن الإقليمي، إذ تشير التطورات إلى أن استمرار الاحتلال والانتهاكات قد يفاقم التوترات، ويجعل المنطقة عرضة لصراعات مفتوحة، ويضع الأمن العربي تحت ضغط مستمر على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وهنا، يمكن الإشارة إلى أمثلة تاريخية أخرى على تدخلات خارجية رغم وجود غطاء أو تحالفات:

لبنان في الثمانينيات: التدخل الإسرائيلي رغم تفاهمات دولية وانتشار قوات حفظ السلام.

سوريا في حرب 1973: المواجهات مع إسرائيل حصلت رغم دعم الاتحاد السوفييتي وبعض الدول العربية.

العراق عام 1991: العمليات العسكرية الدولية على خلفية حرب الخليج رغم أن العراق كان ضمن اتفاقات مع بعض القوى الإقليمية.

و تؤكد هذه الأمثلة أن الضعف العربي الداخلي، والانقسامات السياسية، والرأي العام الساخط، قد يُستغل من القوى الإقليمية والدولية لتحقيق أهداف توسعية، وهو ما يستدعي صحوة عاجلة للنظام العربي.

وفي السياق ذاته لا بد من الإشارة إلى أن التدخلات الخارجية في المنطقة العربية لم تكن يوماً عابرة أو محصورة في ظرف سياسي محدد، بل هي جزء من استراتيجية ممنهجة لإبقاء العالم العربي في حالة هشاشة دائمة تحول دون تشكّل قوة إقليمية موحّدة، وما صرّح به المبعوث الأميركي توم باراك يكشف بوضوح هذه العقلية؛ إذ اعتبر أن الشرق الأوسط ليس دولًا قومية بقدر ما هو قبائل وعائلات وقرى متفرقة، في إعادة إنتاج مقصودة لذهنية سايكس–بيكو التي تُجزئ ولا توحّد؛ بل ذهب أبعد من ذلك حين أكد أن دول الخليج ليست حليفة حقيقية للولايات المتحدة، وهو تصريح يعكس إدراكًا أميركياً بأن التحالفات القائمة قابلة للتغيير كلما اقتضت المصلحة.

وفي الإطار ذاته، فإن حديث باراك وتوجه واشنطن نحو تخفيض الوجود العسكري في سوريا من ثماني قواعد إلى قاعدة واحدة، يثير التساؤلات حول انسحاب مدروس ربما يكون له تداعيات وقد يفتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية للتوسع على حساب الأمن العربي، وفيما يتعلق بغزة، عبّر باراك عن كراهيته لما جرى من جميع الأطراف، واصفًا المشهد بالفوضى العارمة، غير أن هذه المقاربة النقدية لم تمنعه من تأكيد ثبات الموقف الأميركي تجاه إسرائيل باعتبارها 'حليفًا عزيزًا'، مدعومة سنويًا بما يتراوح بين 4 و5 مليارات دولار، ولها مكانة خاصة في الوعي السياسي الأميركي.

هذه المفارقات في الخطاب الأميركي ــ انتقاد مشاهد الفوضى من جهة، وتكريس الدعم المطلق لإسرائيل من جهة أخرى ــ تضع الأمن القومي العربي أمام معادلة خطيرة: فبينما تُختزل الدول العربية في صورة قبائل متناثرة عاجزة عن حماية نفسها، يُمنح التفوق الاستراتيجي لإسرائيل باعتبارها حجر الزاوية في السياسة الأميركية بالمنطقة؛ وهو ما يستدعي، أكثر من أي وقت مضى، بلورة استراتيجية عربية موحّدة تعيد الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية، وتُحصّن الأمن القومي أمام التدخلات الخارجية، قبل أن تتحول هذه الرؤية الغربية إلى واقع لا رجعة فيه.